+ -

لا يختلف عالمان -بل عاقلان؟- على ذمّ الابتداع في الدِّين، كيف وقد أكمل الله دينه وأتمّ نعمته به علينا؟!، “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا”. وقد حذّرنا سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منها، فقال: “.. فإنّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمّد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة” رواه مسلم وغيره. قال صلّى الله عليه وسلّم: “.. وإيّاكم ومحدثات الأمور، فإنّ كلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة” رواه أبو داود وغيره. وقال صلّى الله عليه وسلّم: “مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ” رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لهما: “مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد”.وقد كان علماء الشّريعة ورثة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأمناء الله على شرعه في كلّ عصر حربًا على البدعة والمبتدعة، على نور من ربّهم وعلى هدى من علمهم، ولكن في هذا الزّمن الّذي كسدت فيه سوق العلم وخَفَتَ فيه صوت العلماء، والّذي راجت فيه سوق التّعالم وعلا فيه صوت الرويبضة وقع انحراف كبير في التّعاطي مع هذا الموضوع، حيث خفيت الكثير من الأحكام المتعلّقة بالبدعة عن المتحدّثين في الشّرع وبالشّرع!! فتنكّب كثير منهم الصّراط المستقيم، وغلا في الحكم والنتيجة، حتّى أصيب كثير منهم بما أطلقت عليه فوبيا الابتداع أو الابتداعفوبيا! ونقلوها إلى عموم النّاس عن طريق العدوى! فصاروا لا يتحدثون إلّا عن البدعة والمبتدعة!، حتّى ظنّ بعضهم أنّ البدعة قسم من أقسام الحكم الشّرعي، الّتي هي: الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام باتّفاق علماء الإسلام على خلاف اصطلاحي ضئيل بينهم، وليس منها البدعة كما هو واضح ومعروف!. وصاروا لا يحاربون إلاّ هذه البدع -ولو كانت من مسائل الخلاف بين الفقهاء- وأغفلوا محاربة المعاصي الأخرى، كبائر وصغائر، ظاهرة وباطنة، حتّى الفسوق الّذي فشا، والفجور الّذي انتشر!. ثمّ ذهبوا إلى أقوال أئمة السّلف في المبتدعة ونزّلوها على المخالفين في مسائل الفقه، مع أنّ المقصود عند علماء السّلف بأهل الأهواء والمبتدعة في الغالب الأعم أصحاب الفرق والمقالات الضّالة الّتي تهدم أصلاً من أصول الاعتقاد والإيمان، وليس المتلبّس ببدعة جزئية أو المخالف في الفقهيات والفرعيات! وكلّ هذا خلط وخبط في عماية!.وممّا زاد في استشراء الابتداعفوبيا هو الجهل -أو تجاهل- بفقه البدعة كما قرّره علماؤنا، ولا بأس أن أشير إلى رؤوس المسائل الّتي اختلفوا فيها: أوّل ما اختلفوا فيه: هو تعريف البدعة تعريفًا دقيقًا، وبالتّالي اختلفوا في الضّوابط الّتي يحكم بها على الأمر هل هو بدعة أو لا؟، ولا يَخفى أنّ الاختلاف في هذين سيؤدّي إلى تباين شديد في النتائج. ثمّ اختلفوا في كون البدعة تنقسم إلى بدعة هدى واقتداء (البدعة الحسنة) وبدعة ضلال واعتداء (البدعة السيّئة) كما هو مذهب كثير من العلماء المحقّقين من أمثال: الإمام الشافعي، وابن حزم، وابن الجوزي، والعزّ بن عبد السّلام، وأبي شامة، وابن العربي، والنّووي، والقرافي، وغيرهم من العلماء. أو لا تنقسم هذا التّقسيم بل كلّ بدعة ضلالة كما هو مذهب كثير من العلماء المحقّقين من أمثال: الإمام مالك، والبيهقي، الطرطوشي، وابن تيمية، والزركشي، وابن رجب، وابن حجر، وغيرهم من العلماء. ولا يخفى أيضًا أنّ هذا الاختلاف له أثر كبير ونتائج متباينة في الحكم على القضايا والمسائل. ووراء هذه المسائل بحار من العلم والبحث والتّحقيق تنقط دونها أعناق كثيرين من الباحثين المتخصّصين، فما بالك بغير المتخصصين؟!، فما بالك بالشّباب العامي؟!.ثمّ إنّ من أخطر ما تجاهله المصابون بالابتداعفوبيا تفاوت مراتب البدع، حيث عمّموا الأحكام الّتي أطلقها العلماء على المبتدعة الّذين جاؤوا بالفواقر والفواجع من القول والاعتقادات قصد هدم أركان الإسلام وأصول الدّين، وحكموا بها على مَن خالف في مسألة فقهية أو وقع في بدعة عملية خفيفة، ولم يعلموا أنّ البدع منها: بدع كبائر وبدع صغائر، وبدع كلية وبدع جزئية، وبينهما من التفاوت كما بين السّماء والأرض، والحكم على المتلبسين بها يختلف اختلافًا جذريّا، وهذا التّقسيم لم أخترعه ولم أبتدعه، بل هو قول العلماء، ولا شكّ أنّه لا عبرة بقول غيرهم، يقول الإمام الشّاطبي رحمه الله تعالى في كتابه “الاعتصام” الّذي وضعه لدراسة أصول البدع: “أنّ المحرم ينقسم في الشّرع إلى ما هو صغيرة وإلى ما هو كبيرةـ حسبما تبيّن في علم الأصول الدّينية. فكذلك يقال في البدع المحرّمة: إنّها تنقسم إلى الصغيرة والكبيرة اعتبارا بتفاوت درجاتها.. ثمّ إنّ البدع على ضربين: كلية وجزئية، فأمّا الكليّة فهي السّارية فيما لا ينحصر من فروع الشّريعة، ومثالها بدع الفرق الثلاث والسّبعين، فإنّها مختصة بالكليات منها دون الجزئيات، وأمّا الجزئية فهي الواقعة في الفروع الجزئية، ولا يتحقّق دخول هذا الضّرب من البدع تحت الوعيد بالنّار، وإن دخلت تحت الوصف بالضّلال، كما لا يتحقّق ذلك في سرقة لقمة أو التّطفيف بحبه، وإن كان داخلاً تحت وصف السّرقة، بل المتحقّق دخول عظائمها وكلياتها”.فيا ليت المصابين بهذا الدّاء “الابتداعفوبيا” يرجعون إلى هذه المسائل، وينظرون إلى اختلاف الفقهاء، وإلى أسباب اختلافهم، وإلى الضّوابط والمعايير التي اختارها كلّ واحد منهم لنفسه، فيفقهوا شيئًا من فقه البدعة، ويعلموا شيئًا من أحكام الابتداع حتّى يُريحوا أنفسهم ويريحوا إخوانهم. ويحاربوا البدع على هدى من العلم، ونور من ربّهم. فكم من سُنّة أُمِيتَت بدَعوى أنّها بدعة، وكم من صالحين ظُلِموا بدعوى أنّهم مبتدعة!.إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات