الصغير أولاد احمد.. الشاعر الذي بكته السماء وشيّعته نساء تونس

38serv

+ -

لا تمطر السماء في كل موت، ولا تخرج النساء في الجنازات دائما، لكن الشاعر محمد الصغير أولاد احمد الذي مات ذات 5 أفريل، شيّعته نساء تونس كما رجالها، وقد قال فيهن ذاك القصيد الخالد “وصفت فلم يبق وصف.. باختصار وأمضي.. نساء بلادي نساء ونصف”، ولا يحدث أن يرثي الشاعر نفسه قبل موته، ويقول في القصيد “غدًا ليسَ يومًا أكيدَا.. أيها الطبُّ والربُ.. لا تَتركاني، مع الذئب، وحْدي.. وإن شئتُما فدَعاني إلى وحْدتي واحدًا ووحيدَا”. رزئت تونس في شاعر لا يأتي مرتين منذ أسبوع، بعد صراع مع المرض الخبيث، توقف نبض محمد الصغير أولاد احمد، وانطفأت شمعة الكتابة والقصيد، وغيب الموت رجلا يقال إنه يمثل ربع الشعر التونسي، لا يذكر الناس في تونس أناشيد الثورة دون أن تكون قصائد الصغير أولاد احمد واحدة منها، ولن ينسى التونسيون للأبد قصيد “نحب البلاد كما لا يحب البلاد أحد.. نحب البلاد صباحا مساءا.. وقبل الصباح وبعد المساء ويوم الأحد”، ولا يعرف التونسيون شاعرا حمل همومهم وآلامهم وآمالهم قبل الثورة وبعدها، بعد الشاعر أبي القاسم الشابي، غير الصغير أولاد احمد.وأنا أصعد السلم نفسه الذي كان يصعد، وأطرق الباب الذي كان يفتح، كنت أرتب الكلمات في شفتي لأقابل “زهور” و “كلمات”، زوجته وابنته، حين فُتح الباب كانت سيدة غائرة العينين قبالتي، لم تسألني من أنت، لكني كنت كشارع مزدحم بالأسئلة، انكفأ الصحفي فيَّ وتسمرت أمام امرأة رزئت في أكثر من رفيق حياة، واجب العزاء تم وقلت ما وجب، بعدها بلحظات كنت أجلس حيث كان يجلس ذاك الشاعر الجميل الذي رحل.من صدفة الموت أو كرم النهاية أن يموت الشاعر عشية احتفائه بعيد ميلاده، وهو الذي وُلد في 4 أفريل 1955 ومات في 5 أفريل 2016.. مسافة 61 سنة من القتال الأدبي والكتابة وتحولات الحياة والمراحل التي سجل فيها الصغير حضوره نصا وجسدا، تقول زوجته زهور لـ “الخبر” “يوما واحدا قبل وفاته، كان الرواق المؤدي إلى غرفته بالمستشفى العسكري في تونس مزدحما بأحبائه وأصدقائه الذين تذكروا عيد ميلاده، عندما زرته يوما قبل وفاته، وكان ذاك عشية 4 أفريل الجاري، وجدت كثيرا من الضيوف يحملون الورد، ووجدته يتحدث إلى أحد أصدقائه، لم يكن يشعر حينها أن الموت يدنو، وجدته مهتما أكثر بمسألة إنشاء جمعية تونس الشاعرة، فحتى آخر نبض من حياته كان مهتما بتأسيس جمعية قال إنها تستهدف الربط بين الشعر والمسرح والخط”.الموت المؤجللأربعة أشهر قاوم الشاعر الموت، وتأجل موعد رحيله عن العالم، كان يحاول أن يكنس الخوف من الموت ويهزم المرض، تضيف زهور “منذ فترة أبلغني الأطباء أن المرض الخبيث يلتهم جسده، وأن الصغير لن يتجاوز شهر جانفي الماضي، لكن رغبته في الحياة كانت أقوى من ذلك، لقد كان يكتب حتى آخر لحظة وحتى آخر يوم من حياته”، وتضيف “في الأيام الأخيرة التي سبقت وفاته أحس بضيق في التنفس وأدخل المستشفى، استدعاني قبل فترة قصيرة ليسلمني كلمة سر بريده الإلكتروني وصفحته على الفايسبوك، كان يودُّ أن يستمر في التواصل مع الناس حتى بعد موته، باتت تلك مسؤولية أخلاقية علي، ولذا أنا أحرص على أن تظل صفحته مفتوحة، أعمل الآن على أن أطعمها بصور لم تنشر من قبل”.يشعر قلب الشاعر قبل العين أحيانا، قبل وفاته بأيام فقط، “وصله صك مالي بقيمة معينة لقاء منشوراته، سحب المبلغ وسلمني 5 آلاف دينار، قال لي إن هذا كلفة التكفل بمراسيم وفاته، لقد عاش بين الناس متواضعا ومات كبيرا، كنت حزينة لوفاته، لكني كنت متشفعة بما رأيت من إقبال الناس على الجنازة، بمن فيها البسطاء الذين ربما لم يلتقوه وليس لهم ثقافة، لا يعرفون شعره، سوى رمزيته”.كانت الجنازة الكبيرة ومستوى الحضور من البسطاء والشخصيات السياسية والثقافية من تونس وغير تونس التي حضرت الجنازة، تمثل بعض العزاء الذي شد أزر زهور كل عائلة الشاعر الراحل، لكنها حملت زوجته زهور بعضا من المسؤولية الكبيرة في حمل إرث أدبي لشاعر تونس، بدت زهور أكثر وعيا، وقالت “أشعر الآن أن مسؤوليتي أكبر في أن يظل الصغير أولاد احمد بين الناس”، وكشفت أنه ترك 5 كتب مخطوطة ستعمل على نشرها، فهو كان حريصا على احترام الكلمة والحرف والكتاب.لا تبخس زوجة الشاعر الراحل حق السلطات التونسية في رعاية الصغير أولاد احمد في الفترة الأخيرة لمرضه، فقبل أشهر رعت وزارة الثقافة التونسية حفلا كبيرا خصص لتكريمه، كان ذلك بعض من حق الشاعر على تونس التي أحب، وتؤكد أن هيئات مدنية أخرى كرمته أيضا، فقد حصل على شقة سكنية منحها له اتحاد الصناعة والتجارة التونسي، (بخلاف ما أشيع أن الحكومة التونسية هي التي منحته الشقة) حوَّلها الشاعر الراحل إلى مقر لجمعية “تونس الشاعرة” التي كان يعمل على تأسيسها.لم تنس زهور أن تأتي في حديثها على استذكار وقفة كريمة لوزير الثقافة الجزائري عز الدين ميهوبي الذي زار بيت الشاعر الصغير أولاد احمد وعزى زوجته، وكذا الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي، تقول زهور “أعرف أن للصغير معزة خاصة لدى كثير من كتاب وشعراء الجزائر، كان يعرف كثيرا منهم، مثل ميهوبي وعادل صياد وسليمان جوادي وكثيرون لا أتذكر أسماءهم، كان يحدثني عنهم، وبعضهم زاره في المستشفى بعد مرضه”، وأضافت “كان الصغير يشعر بكل الحب اتجاه الجزائر، لقد كان يتحدث عن نضال الإنسان الجزائري من أجل الحرية بوقار كبير”.حين كانت زهور تستعيد اللحظات الأخيرة لوفاة شاعر تونس، كان الصمت يقبض على “كلمات” كانت الأخيرة، وهي ابنته التي سماها كلمات لتبقى استمرارا لشعريته، وتعبيرا عن وجوده المرتبط بالحرف والكلمة، تفتش في حساب الأب المغيب على موقع التواصل الاجتماعي وتستعيد بعضا من صوره.عندما طلبتُ منها أن تأخذني إلى مكتبه الذي كان يكتب فيه ويدفن فيه همومه، لم تتردد برغم أنها مازالت لم تستفق من حالة الغياب، في المكتب المكدس بالكتب صورة في الأعلى للشاعر الصغير أولاد احمد مع الشاعر محمود درويش، ولوحات مرسومة تتضمن مقاطع من قصائد بمكتوبة بأشكال فنية جميلة، كان هذا جزءا من المشروع الثقافي للصغير أولاد احمد، يتوجه إلى أن الخط واللوحة المرسومة يمكن أن تكون نافذة جمالية للترويج للقصيدة، كتب في كل زوايا المكتب، وعلى الكرسي الأحمر كوفية، وعلى المكتب بعض من الورد وبطاقات معايدة كانت تصل إلى الشاعر قبيل أن يدخل إلى المستشفى للمرة الأخيرة.مسار الكتابة والقصيد الثوريكان الصغير أولاد احمد متحمسا لليسار في تونس، حسم موقفه السياسي بوضوح منذ عقود ما قبل ثورة 14 يناير، قبل الثورة كتب الصغير أولاد احمد متأثرا بحالة التهميش التي شهدتها في مسقط رأسه سيدي بوزيد، ومدن الجنوب التي درس فيها كقفصة، قصائدُ مشحونة ضمنها ديوانه الأول “الأيام الستة” عام 1984، لكن نظام الرئيس الحبيب بورقيبة صادر الديوان ولم يسمح بنشره بسبب مضمونه السياسي حتى عام 1988، بعد الانقلاب الأبيض الذي قاده زين العابدين بن علي في نوفمبر 1987.ثم نُشر ديوانه الأول في انتفاضة عُرفت بـ “ثورة الخبز” التي اندلعت في جانفي 1984، اعتقل خلالها الشاعر الصغير أولاد احمد بعد مشاركته في اعتصام دعا إليه الاتحادُ التونسي للشغل، ولأن لكل موقف ثمنا، دفع الصغير أولاد احمد ثمن موقفه بطرده من العمل كإطار في دار الشباب، كانت قسوة الحياة في مدن الجنوب التونسي والقمع الذي تعرض له قد زادت من شحنه سياسيا، فأصدر ديوانه الشعري الثاني عام 1987 بعنوان “ولكني أحمد”، وظل بسبب مواقفه ملاحقا من قبل نظام بن علي الذي كان قد بدأ حركة قمع مشددة ضد اليسار والإسلاميين على حد سواء، دفع هذا الوضع الصغير أولاد احمد إلى الهجرة إلى فرنسا، وعاد عام 1993 ليؤسس “بيت الشعر” حتى عام 1997، حيث أصدر “ليس لي مشكلة” عام 1998، وخلال تلك الفترة حاول نظام بن علي استمالته، فمنحه وسام “الاستحقاق الثقافي”، لكنه أعلن رفضه لهذه الجائزة، موقف كلفه الطرد من عمله كملحق ثقافي في وزارة الثقافة، ولم تكن هذه المواقف تراكم لدى الصغير أولاد احمد سوى نقمة على نظام القمع البوليسي الذي كان يمارسه بن علي الذي انتهى إلى ثورة الياسمين، ثورة كان الصغير قد تنبأ بها في بعض قصائده التي كتبها في الفترة القليلة التي سبقت الثورة.وفي عام 2013 كان الصغير أولاد احمد يصدر كتابا نثريا بعنوان “القيادة الشعرية للثورة التونسية”، وفي هذه الفترة كانت تونس تعيش صداما سياسيا كبيرا بين حكومة الترويكا التي تقودها حركة النهضة، والقوى التقدمية، في ما يعرف باعتصام الشرعية واعتصام الرحيل، كان الشاعر الصغير أولاد احمد أبرز المتحدثين في الاعتصام المطالب برحيل حكومة الترويكا، فقد كان أولاد احمد ككثير من النخب التونسية رافضا للالتباس المتعلق بالدين والسياسة، شوش هذا الموقف على صورته لدى جزء من المكون الثقافي والمجتمعي والسياسي في تونس، لكن ذلك لم ينقص من شعريته وشاعريته وقوة نصوصه التي كتبها في مختلف المراحل، كجزء من الشواهد التي تؤرخ لمسار وتحولات شهدتها تونس في العقود الأربعة الأخيرة.رحل الشاعر الذي أحب تونس، وبقيت تونس تحبه وتستذكر كل قصيد كتب، وقد كانت تونس أيضا آخر ما دوَّن في حياته يوم 4 أفريل، يوما واحدا قبل وفاته:تونس،سلّمتُ في الدُّنيا وقلتُ أكونُها شعرًا ونثرًا وناقدًا ومُبشّرا طولَ الفصولِ الأربعه..أنْثَى وأمّي ليس لي قبْرٌ في المـَا بعْدُ في الأُخْرى سوى هذي الحُروفِ الأربعهْ: تونس

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات