+ -

دخلت معركة الكر والفر التي يشنها أفراد حرس الحدود ضد شبكات التهريب وبالخصوص “الحلابة”، مرحلة حاسمة بعد شهرين من دخول المخطط الجديد “لالة مغنية” حيز التنفيذ، لكن بالمقابل وجد سكان الحدود الجزائرية، الذين شبوا وشابوا بين قوم ورث حرفة التهريب أبا عن جد، أنفسهم أمام مستقبل غامض بعد تجميد مصدر قوتهم الوحيد، في ظل غياب المنشآت القاعدية في المنطقة.“الخبر” رافقت حرس الحدود بتلمسان، ووقفت على الحالة التي يعيشها سكان تلك القرى التي لا يفصلهم عن مدينة وجدة المغربية إلا 7 أمتار تتجلى في خندق تم حفره كحزام أمني لشل نشاط المهربين.       وأنت تسير بين منعرجات الحدود المتاخمة للأراضي المغربية، قبل بضع كيلومترات من دائرة بني بن بوسعيد، وبالضبط في أعالي جبل العصفور المطل على مدينة وجدة المغربية، تلمح المساحة الهائلة التي تتربع عليها العاصمة الشرقية للمغرب الأقصى، على بضع كيلومترات من الشريط الحدودي.الأغلبية تتنفس من بيع وشراء المحظوروما إن تلج دائرة بني بوسعيد التي تضم عدة قرى، أهمها الزوية التي ذاع صيتها في وقت مضى، تتفاجأ بخلو المكان، جمود وسكون قاتل يملأ القرية، طرقات شبه شاغرة، مقاهي ممتلئة بالشباب البطالين بوجوه عبوسة، ناقمين على السلطات التي أجهضت نشاطهم الذي دأبوا على ممارسته وورثوه عن الأجيال السابقة. وطبعا سيلفت انتباهك تلك السيارات الكبيرة الحجم المعروفة بقدرة خزاناتها على حمل كميات كبيرة من الوقود، على غرار “مرسيدس” و«رونو 25” و«بيجو 505”، مركونة في كل مكان وفي كل زاوية، وهي التي كانت في وقت سابق لا تبرح مكانها ذهابا وإيابا مملوءة خزاناتها بالوقود، والعارف بالمكان سيتساءل: أين هي الحمير والدواب التي كانت تملأ المكان كونها الوسيلة المفضلة في تمرير السلع عبر “الحدادة”.“المحظوظ يشغل منصب موظف في البلدية”“كما ترى أصبحنا خارج الزمن”، هي أولى الكلمات التي بادرنا بها شاب لا شك أنه كان ينشط ضمن “الحلابة”، قبل أن يضيف بلهجة مغربية خالصة وبنبرات حسرة: “فتحت عيناي في “الحدادة”.. كنت ألعب هناك وراء الخندق، وبعدها أصبحت أكسب قوتي منها.. ولا تنسى أنه تربطنا علاقات قرابة في وجدة”، فقاطعت كلامه بسؤال “لماذا لا تخدمون أرضكم الفلاحية مثل أسلافكم”، فرد علي بعد برهة من التفكير مترددا “ أغلب سكان المنطقة استغنوا عن خدمة الأرض، وجميعهم لم يواصلوا دراستهم..الكل يكسب قوته من التهريب، وربما المحظوظ فينا يشتغل موظف بسيط في دار البلدية”.وعلى بعد أمتار من المكان الذي كنا نقف فيه مع محدثنا، نصب أفراد الدرك الوطني مخيمات خضراء اللون على حافة الخندق الذي يمتد طوله على مسافة 170 كيلومتر على الشريط الحدودي لولاية تلمسان، تكمن مهمتهم في مراقبة الخندق الذي يحاول المهربون في كل مرة اجتيازه باستعمال طرق وحيل جديدة، على غرار استعمال جسور من الألواح الخشبية أو استعمال الحبال للنزول ومن ثم الصعود... أو استقبال وتمرير السلع بإلقائها من يد إلى يد. وفي الموضوع استرسل قائد المجموعة الإقليمية للدرك الوطني بتلمسان، المقدم رفادة صالح، موضحا: “المخيمات استحدثناها من أجل تقريب الفواصل بين مراكز المراقبة”، وأضاف “الحلابة كانوا يكسبون على الأقل 50 ألف دينار جزائري يوميا”. أما في الضفة الأخرى من الخندق على الأراضي المغربية، فالحال أسوأ بكثير، فحرس حدود المخزن، الذين خسروا مكسب رزق، أخذوا يراقبون تحركاتنا عن كثب باستعمال المنظار، بعد أن لاحظوا حركة غير عادية، وفجأة ظهرت سيارة سوداء اللون من نوع “404 بيجو” تتحرك ببطء محاولة الاقتراب، وكأن من على متنها يحاولون فهم ما يجري.“شريحة هاتفي مغربية”اقتربنا من شخص آخر في عقده الرابع، وبادرناه بسؤال عن علاقته مع المغاربة، فرد مبتسما “حتى شريحة هاتفي النقال مغربية، الأمر طبيعي جدا، لدي أقارب هناك ... أما عن ارتفاع أسعار الوقود الجزائري في المغرب الأقصى، كشف المقدم رفادة محمد صالح بأنها اشتعلت منذ دخول المخطط حيز التنفيذ قائلا: “ وصلت أسعار البنزين مؤخرا إلى 180 دينار جزائري، بعد أن كانت تتراوح أسعارها ما بين 100 و140 دينار جزائري”.المعركة لا تزال متواصلةولم يكتف أفراد الدرك الوطني بحفر الخندق ونصب مراكز مراقبة جديدة لتقليص الفواصل بين المراكز، بل توغلوا حتى أوكار المهربين، وخربوا أعشاشهم التي نصبوها كمستودعات لتخزين الوقود وجميع المواد المدعمة أسعارها من الحكومة الجزائرية. وخلال جولتنا الاستطلاعية، وقفنا على مستودعين أو ثلاثة ببلدية بني بوسعيد تم تخريبهم، وحسب نفس المصدر، فإن عددها بلغ 38 مستودعا، منها 17 في بلدية باب العسة”. حفر الخندق ليس الحزام الأمني الوحيد ضمن مخطط “لالة مغنية”، بل تم نصب حزامين أمنيين آخرين، يتمثل الأول في تكثيف الحواجز الأمنية على مستوى الطرقات الوطنية التي يسلكها المهربون باتجاه الصحراء عبر ولاية النعامة، وأخرى غير ثابتة على مستوى الطرق غير المعبدة التي تعرف باسم الاختصارات، بينما تجلى الحزام الثالث على مستوى الطريق السيار شرق غرب.وعن الحيل التي يستعملها أفراد شبكات التهريب، على غرار استعمال الهاتف النقال في توجيه أصدقائهم المهربين لتفادي الوقوع في الحواجز الأمنية، نصب الدرك حواجز أمنية جديدة، بعضها ثابث والآخر متنقل لتشتيت عملية تحديد موقعهم، كما دعم المخطط بمروحيات ووسائل متطورة كجهاز تحديد المواقع لمتابعة عن كثب حركة المهربين الذين يسلكون الطرق غير المعبدة في الظلام الحالك ليلا.الولاية مطالبة بإيجاد حلول بديلة  الزائر للقرى المنتشرة عبر الشريط الحدودي الغربي بولاية تلمسان، يفهم أن دور مصالح ولاية تلمسان أصبح ضروري أكثر من أي وقت مضى، وعليها إيجاد البدائل التنموية لإنقاذ مستقبل سكان الحدود الذين كانوا يكسبون قوتهم الوحيد من التهريب، خصوصا وأن الولاية تفتقر لحد الساعة لمنطقة صناعية توفر مناصب شغل.وحسب نفس المسؤول، فإن عدة مشاريع تنموية سيتم استحداثها في المستقبل القريب، منها تزويد السكان بالمياه لإعادة بعث الحياة في الأراضي الفلاحية التي استغنوا عنها. أما بالنسبة للبارونات الكبيرة التي سيطرت وبسطت نفوذها لعدة سنوات على نشاط التهريب فلا خوف عليهم، بحكم أنهم كسبوا أموالا طائلة خلال تلك الفترة. وحسب ما تناهى إلى سمعنا في الشارع التلمساني، فإن أغلبهم توجهوا إلى التجارة القانونية، وانطلقوا في كراء المحلات التجارية بمغنية وتلمسان بعد أن فقدوا الأمل في عودة الربح السريع. بينما الخاسر الأكبر والمتضرر في المعادلة هم شركاءهم المغاربة، الذين ضاق الخناق عليهم ووجدوا أنفسهم فجأة مهددين بالأزمة.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات