جامعيون وشباب يستنجدون بالشيوخ لملإ الصكوك والحوالات

+ -

يقف الشاب محمد، أمام شباك البريد، يخرج دفتر الصكوك ويشرع في تحريره، ثم  يقوم بتمزيقه ويعيد الكرة، غير أنه يخطئ للمرة الثانية ويمزّق الصك، قبل أن يطلب المساعدة من ستيني كان يقف بجواره، والخجل باد على وجهه.. والسبب أنه لا يجيد الكتابة بدون أخطاء. هذا المشهد يتكرر يوميا في مراكز البريد، وكنت شاهدة عليه بأحد المراكز في العاصمة، شباب يبدو عليهم أنهم طلبة أو خريجو جامعات، يلجأون إلى أشخاص لم تطأ أقدامهم يوما الجامعات من أجل تحرير صكوكهم، رغم أن الأمر لا يحتاج إلى الكثير من الجهد، لكن هي مهمة صعبة لبعضهم أو بالأحرى شبه مستحيلة. وهو حال شابين كانا يجلسان أمامي ينتظران دورهما في مركز بريدي بباب الوادي، كانا يتبادلان الحديث، فعرفت أنهما طالبان جامعيان في الحقوق. وما إن اقترب دورهما حتى نهض أحدهما, وأخرج دفتر الصكوك، وتوجّه إلى السيد الذي يقوم بتحرير الصكوك لزبائن البريد مقابل 20 دينارا. كان الأخير يجلس في مدخل المركز فطلب منه تحرير الصك، قدّم له كل معلوماته الشخصية والمبلغ الذي يريد سحبه، وعندما أنهى حديثه معه، استوقفت الشاب وسألته عن سبب عزوفه عن كتابة الصك بنفسه، عوض دفع 30 دينارا، السؤال الذي لم يستسغه الأخير، غير أنه لم يجد حرجا في الرد ولو على مضض، مرجعا الأمر إلى أنه غير متعود على سحب النقود من ركز البريد ، بل من البنك، فتخوّف أن يخطئ ثم انصرف إلى الشباك. الرد لم يقنعني طبعا، على اعتبار أنه طالب جامعي، فضّلت استقصاء الأمر من محرر الصكوك في مدخل المركز. ابتسم السيد الخمسيني وأنا أسأله عن زبائنه، وإن كان أغلبهم من الشيوخ الذين يجهلون أبجديات الكتابة والقراءة، فرد ضاحكا “يا ابنتي الشباب والطلبة الجامعيين أكثر زبائني، يلجأون إليّ لتحرير الصكوك من أجل سحب المنحة الجامعية، ومنهم حتى من يدرسون الطب”. وأنا أتحدّث إليه، اقترب منا شاب يبدو في بداية عقده الثاني، كان يحمل حقيبة ظهر، تبادل الحديث مع محدثي وظهر أن بينهما معرفة مسبقة، عندما وجّه له الأخير سؤال “كي العادة تجبدها كامل” متحدثا عن المنحة الجامعية حسب ما فهمت، فرد الشاب بالإيجاب، وبخلاف الشاب الذي حدثته سابقا لم يجد هذا الشاب حرجا في الإجابة والحديث وهو يبتسم “أفضل أن لا أجازف حتى لا أقع في المشاكل، خاطيني الأرقام”.  قبل أن يواصل الشاب الذي يدرس سنة أولى علم النفس، “كدت أن أتسبب في كارثة المرة السابقة عندما كلفني والدي بسحب مبلغ 5000 دينار من رصيده، ومنحني صكا على بياض على أن أقوم بمهمة تحريره، غير أنني عوض أن أكتب 5000 دينار كتبت 50 ألف دينار، ولم أنتبه للأمر إلا عندما نبّهتني الموظفة أنه لا يمكنني سحب هذا المبلغ لأنه ليس حسابي”.من جانبه، ذكر الخمسيني وهو يمنح الصك للشاب، أن الأمر يتكرر معه يوميا، وأن الكثير من زبائنه من الطلبة خاصة في سنتهم الأولى في الجامعة غير متعودين على التعامل مع الصكوك، وأغلبهم لجأوا إليهم بعد أن وقعوا في أخطاء كارثية. “الشاب الذي كنت تتحدثين إليه ليس الوحيد الذي يقع في مثل هذه الأخطاء، فالكثيرون من أمثاله لا يختلفون عن أي عجوز مسنّة، الفرق أن الأخيرة ربما لا تجيد كتابة اسمها إلا أنهم يجيدون ذلك، كما أن الكثير منهم يظنون أنهم مجبرون على تحرير الصك باللغة الفرنسية، ويتخوّفون من كتابة المبلغ كاملا بالحروف اللاتينية، فيشعرون بالحرج في حال أخطأوا، رغم أنه يمكنهم تحرير الصك باللغة العربية”.لكن محدثي ليس الوحيد المكلف بتحرير الصكوك مقابل مبلغ رمزي في مركز البريد، فهناك آخرون يقومون بالمهمة بالمجان، ويكفي أن تمضي وقتا قصيرا في أي مركز بريدي لتلحظ الأمر، وهو ما وقفت عليه في المكان، أين كان شيخ بصدد تحرير حوالة بريدية، فتقدم منه شاب وطلب منه القلم، قبل أن يطلب منه بلباقة إن كان يمكنه تحرير صك كان يحمله في يده، استغرب الشيخ الأمر طبعا ولم يمر طلب الشاب مرور الكرام ، فعلّق وهو يكتب “يا وليدي واش تخدم؟ أنت صغير في السن كيف لا تجيد كتابة بضعة كلمات، تعليق لم يعجب الشاب الذي استقبله على مضض، قبل أن يجيبه “الحاج، الله غالب اللي قرا قرا بكري لست متعوّد على كتابة الصكوك، تعوّدت على استلام أجرتي “كاش” إنها أول مرة”.المشهد الذي تابعته وأنا أجلس بالقرب من سيدة في عقدها الخامس، بادرتني بالحديث بعد أن قدمت نفسها على أنها معلمة متقاعدة، قائلة “يا بنتي لا أفهم ماذا يدرس هذا الجيل، أستغرب كلما آتي إلى هنا تستوقفني شابات وشباب عندما أقوم بتحرير صك أو حوالة ويطلبون مني مساعدتهم، الأمر ليس بهذه الصعوبة، فأين الخلل؟”.  

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات