من أعظم أهوال يوم القيامة اجتماع النّاس في المحشر وانتظارهم فصل القضاء بينهم، في موقف طويل، شديد مفزع: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِين}. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: يقومون حُفاة عراة غُرْلاً، في موقف صعب حرج ضيق ضنك على المجرم، ويغشاهم من أمر الله ما تعجز القوى والحواس عنه.❊ يروي الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} قال: يقوم أحدهم في رشحه (أي: عَرَقِه) إلى أنصاف أذنيه”، ويرويان أيضًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: “يعرق النّاس يوم القيامة حتّى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعًا، ويلجمهم حتّى يبلغ آذانهم”. ويكون عرق النّاس في ذلك اليوم على قدر أعمالهم، ففي صحيح مسلم عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: “تُدْنى الشّمس يوم القيامة من الخلق حتّى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون النّاس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم مَن يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا”.قال الحافظ ابن حجر: “ومن تأمّل الحالة المذكورة عرف عظم الهول فيها، وذلك أنّ النّار تحفّ بأرض الموقف، وتُدنى الشّمس من الرؤوس قدر ميل، فكيف تكون حرارة تلك الأرض، وماذا يرويها من العرق حتّى يبلغ منها سبعين ذراعًا، مع أنّ كلّ واحد لا يجد إلاّ قدر موضع قدمه، فكيف تكون حالة هؤلاء في عرقهم مع تنوّعهم فيه، إنّ هذا ممّا يبهر العقول، ويدلّ على عظيم القدرة، ويقتضي الإيمان بأمور الآخرة أن ليس للعقل فيها مجال، ولا يُعترض عليها بعقل ولا قياس ولا عادة، وإنّما يُؤخذ بالقَبول ويدخل تحت الإيمان بالغيب، ومن توقف في ذلك دلّ على خسرانه وحرمانه، وفائدة الإخبار بذلك أن ينتبه السامع فيأخذ في الأسباب الّتي تخلّصه من تلك الأهوال، ويبادر إلى التّوبة من التبعات، ويلجأ إلى الكريم الوهّاب في عونه على أسباب السّلامة، ويتضرّع إليه في سلامته من دار الهوان، وإدخاله دار الكرامة بمنه وكرمه”.ولعظيم وضيق هذا اليوم كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتعوّذ منه، سُئلت عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إذا قام يُصلّي؟ وبم كان يستفتح؟ فقالت: “كان يكبّر عشرًا، ويحمد عشرًا، ويُسبّح عشرًا، ويهلّل عشرًا، ويستغفر عشرًا، ويقول: “اللّهمّ اغفر لي وارحمني، واهدني وارزقني” عشرًا، ويقول: “اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الضّيْق يوم الحساب”. ولهذا الموقف العظيم ثمرات وبشائر، منها أنّ المؤمن ينبغي أن يكون على استعداد للقاء ربّه، وألاّ يكون في غفلة، فإنّ أمامه أهوالاً وأمورًا عظيمة، فهناك الموت وسكراته، والقبر وظلماته، والنّفخ في الصُّورِ، والبعث بعد الموت، وعرصات يوم القيامة، والميزان، والصّراط والنّار: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُون}. ويقول المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: “كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن واستمع الإذن متى يؤمر بالنّفخ فينفخ”، فكأنّ ذلك ثقل على أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال لهم: “قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكّلنا”.ومن الثمرات كذلك: أنّ الكفّار وأصحاب المعاصي يُشَدَّدُ عليهم في ذلك اليوم: {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا}.ومن الثمرات والبشائر أيضًا أنّ أهوال الآخرة مع شدّتها وكرباتها فإنّ الله بِمَنِّهِ وكرمه يخفِّفها على المؤمن: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُون، لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُون، لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}. صحّ عنه صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: “يقوم النّاس لربّ العالمين مقدار نصف يوم من خمسين ألف سنة، يهون ذلك على المؤمنين كتدلي الشّمس للغروب إلى أن تغرب”.ومن البشائر أيضًا قول الله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}، قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: إنّما هي ضحوة، فيقيل أولياء الله على الأسرة مع الحور العين، ويقيل أعداء الله مع الشّياطين مقرَّنين. ويقول سعيد بن جبير رحمه الله: يفرغ الله من الحساب نصف النّهار، فيقيل أهل الجنّة في الجنّة، وأهل النّار في النّار، ثمّ قرأ: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}. ومن البشائر أنّه في ذلك الموقف العظيم والنّاس في حرٍّ شديد، وبلاء عظيم لا يطاق، يظلُّ الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه سبعة: “سبعة يُظلّهم الله تعالى في ظِلّه يوم لا ظِلّ إلاّ ظِلّه: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلّق في المساجد، ورجلان تحابَا في الله اجتمعَا عليه وتفرّقَا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إنّي أخاف الله، ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذَكَر الله خاليًا ففاضت عيناه”.إمام مسجد عمر بن الخطاببن غازي ـ براقي
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات