تديُّن يكره الحضارة وتحضُّر يكره الدِّين!

+ -

 المؤمنون المقلّدون والمصلّون الذاهلون ينفعلون ولا يفعلون، ويُقادون ولا يقودون، ويعيشون وفق ما يُقال لهم لا ما توحيه ضمائرهم.وعندما يعرض أولئك العلوم الدّينية يحتبسون في الماضي الّذي لا يعرفون غيره، ثمّ يتكلّمون والحاضر لا يعنيهم لأنّهم لا يحسّونه، سمعتُ أحدهم يشرح آية {وَالْجُرُوحَ قِصاص} فإذا هو يقول: إذا تعذّرت العقوبة بالمثل، بأن كان الجرح غير محدّد فماذا نصنع؟ نقوّم الجريح عبدًا ثمّ ننظر قيمته وهو سليم؟ وكم قيمته بعد الجراحة الّتي نزلت له؟ والفرق بين الثمنين يدفع للمعتدى عليه. ثمّ مضى يشرح أحكامًا أخرى كأنّه بَتَّ في القضية.أحسستُ أنّ الرجل ما يزال يعيش في أيّام النخاسة، وأنّ دنياه لم تتغيّر كثيرًا. وبهذا العقلية الراكدة يتناول مختلف الشؤون الاجتماعية والسياسية، فترى الظن أغلب عليه من اليقين والخرافة أسبق إليه من الحقيقة.ودين يتناوله أهله بهذا الأسلوب يموت ولا يحيا.. لأنّ الظروف المادية والأدبية الّتي يعيشون فيها ستحكمهم ولا يحكمونها.استمعتُ إلى محاضرة للدكتور محمود سالم شحادة، أستاذ بالجامعة الأردنية، ذكر فيها كيف أنّ الأقدار سرحت قادة العرب منذ 5 قرون، وأبعدتهم عن مناصب التوجيه والريادة، فإذا هم يتركون الأندلس ويعودون من حيث جاءوا.. أكانوا يتبعون حضارتهم الآفلة بعين باكية؟ أكانوا يتذكّرون أخطاءهم بمشاعر النّدم؟ أكانوا ينظرون إلى عدوّهم بتفرُّس ليعرفوا مصادر قوّته الجديدة؟ ما أحسب شيئًا من ذلك كان يخامرهم! لقد تحوّلوا –كما يحول المحاضر- من قوّة فاعلة إلى حال سائبة، وكانت أوروبا تفور وتمور بالثّورة الصناعية الّتي استطاعت على امتداد الزّمان أن تنقل العالم كلّه إلى درجة ما عرفها قطّ في تاريخه القديم.على حين كان العرب والترك مشغولين بأمور أخرى، ليت شعري ماذا كان يشغلهم؟ إنّهم ما فكّروا في شيء يعيد إليهم مجدهم السّالف، ولا فكّروا في خطّة يفيدون بها من عدوّهم الغالب، إنّ التغيّرات الاقتصادية والاجتماعية بعد الارتقاء العلمي الباهر قعدت بقوم ومضت بآخرين، فإذا أراضي الإسلام تتحوّل إلى مستعمرات، وإذا المسلمون أجراء أو فعلة للغزاة الجدد، كنا ننتج لهم المطاط في جاوة والملايو، ونزرع لهم القطن في مصر والسودان، ونعصر لهم الخمر في أقطار المغرب ونستخرج لهم النفط في أنحاء الجزيرة..يقول الأستاذ المحاضر: لم تكن للمسلم صفة موضوعية، والحالة هذه كان يعمل ما يكلّف به ويقوم بالدّور الّذي رسم له، لم يكن منتجًا مرعيَّ الحقوق، ولا مستهلكًا مقدور الحاجات، لقد فقد شخصيته وانتماءه واستقبل عالمًا لا خبرة له به. وهذه التبعية في عالم الأشياء اقترنت بها تبعية في عالم الأفكار، فأمسى من تلقاء نفسه يعي ما يلقّن من الخارج، ويذهل عن مواريثه الغالية!

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات