أزمة إنسانية في "ميدان الإدماج" في بودواو

+ -

 أمضى المضربون من الأساتذة المتعاقدين ليلتهم الثالثة في “ميدان الإدماج” ببودواو في بومرداس، في ظروف أقل ما يقال عنها إنها غير إنسانية، في حين لم تتوقف عناصر الحماية المدنية عن التدخل لغرض إسعاف المضربين الذين أنهكهم التعب والجوع والبرد، بينما تعرض العديد منهم إلى الإغماء ونزلات البرد والزكام بسبب الأمطار المتهاطلة على أجسادهم النحيلة. كما تعرض أحد الأساتذة إلى عضة للجرذان أدت إلى نقله على جناح السرعة لتلقي الإسعافات. يتواصل “اعتصام الكرامة” للأساتذة المتعاقدين في “ميدان الإدماج” بحي الهضبة في بودواو، وكشف عدد من المحتجين أن ليلة الثلاثاء إلى الأربعاء وليلة الأربعاء إلى الخميس كانتا طويلتين جدا، بالنظر إلى تقلب الأحوال الجوية (البرد والمطر). وقال المحتجون إن العديد منهم لم يغمض له جفن بسبب البرد، في حين تبلل المحتجون وأصيب عدد كبير منهم بنزلات برد، ولم تتوقف عناصر الحماية المدنية عن التدخل لإجلاء المضربين الذين أصيبوا بالإرهاق الشديد والإغماء. وكشفت عناصر الحماية المدنية لولاية بومرداس أنها جندت وحداتها في المكان 24سا/24سا للتدخل تحسبا لأي طارئ، كما كشفت مصادر من الأساتذة المتعاقدين أنه بالإضافة إلى كل هذه المعاناة يتعرض الأساتذة المتعاقدون إلى عضات الجرذان والقوارض، فقد حُوِّل أستاذ متعاقد على جناح السرعة أول أمس إلى المستشفى، بعد أن تعرض إلى عضة جرذ، اضطر الطاقم الطبي الى إسعافه بـ20 حقنة لحمايته من السموم، في حين تقدم مدير التربية لولاية بومرداس الذي عرض على المحتجين المبيت في ثانوية الشهيد محمد قويقح لمسح قليل من “العار” الذي لحق بوزارة التربية جراء هذه الأزمة الإنسانية التي يتعرض لها الأساتذة في مكان الاعتصام.ويتواصل في “ميدان الإدماج” الإضراب عن الطعام لعدد من الأساتذة، كما أن بعض المضربين يتواجدون في حالة صحية خطيرة تتطلب تدخلا عاجلا من الوصاية لحمايتهم من الموت المحقق.   

الأستاذة منصورية.. سيدة بألف رجل  “اشتقت لبناتي وفكرت في التراجع عن موقفي لأجلهن، ولكن قضيتي لا تقل أهمية، فكرامتي فوق كل اعتبار”، كلمات خافتة وجسد نحيف، أرجل متورمة، إرهاق بدني، جوع وعطش، تروي السيدة لحمر عبو منصورية، ذات 32 ربيعا، رحلتها من الغرب إلى الشرق ومن الشرق إلى وسط البلاد، ومن مسيرة “الكرامة” إلى الاعتصام بما أطلق عليه “ميدان الإدماج” الذي تفترشه رفقة العشرات من الأساتذة المتعاقدين الذين هبوا من كل حدب وصوب، فاختلفت المناطق لكن القضية واحدة “الإدماج دون قيد أو شرط”.تحدت منصورية من مستغانم الطبيعة لتشارك إخوانها من مسيرة الكرامة، هي أول امرأة تنقلت من الغرب الجزائري إلى العاصمة في 21 من الشهر المنقضي، حين كان للأساتذة المتعاقدين موعد مع أول وقفة احتجاجية يقودها هؤلاء في رويسو بالعاصمة التي تحتضن مبنى وزارة التربية. تقول منصورية “تعامل رجال الأمن مع احتجاجاتنا في السابق، عندما تعرضنا لشتى أنواع العنف أمام مقر الوزارة، دفعنا إلى التفكير في تنظيم أنفسنا أكثر والقيام بحركة احتجاجية تكون نوعية تعبر عن مستوانا الثقافي وتعرف بقضيتنا العادلة”.تقول منصورية “شرعت في رحلة التنقل من مستغانم إلى غليزان ثم إلى بجاية”، وفي رحلة دامت ساعات قطعت خلالها 600 كلم بعد أن استقلت حافلة نقل المسافرين وانطلقت من ولايتها في حدود الساعة السادسة مساء ووصلت لوجهتها بجاية على الرابعة صباحا، أمضت باقي ساعات الليل رفقة زملائها في محطة المسافرين إلى غاية الثامنة حين التحق بهم بقية الأساتذة، ومن ثم التوجه إلى مديرية التربية لولاية بجاية التي كانت نقطة انطلاق مسيرة “الكرامة” للأساتذة المتعاقدين. “لن نرضى الذل”بتاريخ 27 فيفري وعلى الساعة العاشرة ومن أمام مديرية التربية ببجاية، كنا في موعد مع التاريخ، انطلقت مسيرة “الكرامة” التي قالت منصورية إنها تهدف لرد الاعتبار للأستاذ وحفظ كرامته. كانت المسيرة شاقة جدا ومتعبة، “تحملت طيلة أيام المسيرة المشاق، تورمت أقدامنا”، وإلى غاية البويرة وتحديدا عند بشلول، تقول الأم منصورية إنها لم تستطع التحكم في عاطفة الأمومة التي تغلبت عليها.. “لم أتمكن من كبح اشتياقي لبناتي الثلاث (بين 3 و9سنوات)”.انطلقت منصورية من البويرة إلى مستغانم للقاء فلذات كبدها اللواتي استقبلنها بحرارة، “وبقدر تعبي وإرهاقي واشتياقي كانت حرارة اللقاء التي أنستني كل آلامي”، تقول منصورية، “في وقت لم تستطع أرجلي حملي وأنا محاطة ببناتي، فانهرت عند مدخل بيتي باكية بعدما تغلب شوقي لأهلي وأولادي وتذكرت كل معاناتي وأحزاني ومن تسبب في عذابي”.العودة بعد استراحة محارببعد ليلة واحدة قضتها في بيتها اعتبرتها منصورية “استراحة محارب”، عادت في اليوم الموالي لمواصلة مسيرتها، فالتقت بباقي المحتجين في بلدية عمال بين البويرة وبومرداس، وانضمت من جديد إلى بقية أعضاء المسيرة، أقامت ليلتها معهم في ببلدية بني عمران. كانت “ليلة سوداء” وفي كل نقطة يتوقفون فيها للمبيت تصلهم قرارات مديريات التربية بمنعهم من إمضاء ليلتهم في الثانويات. تقول منصورية إن الأمر في بني عمران وصل إلى غاية قطع الكهرباء على الثانوية التي أمضينا فيها ليلتنا، ليواصلوا بعدها مسيرة الكرامة، فمن الثنية وتيجلابين إلى بومرداس نقطة التقاء باقي الأساتذة المتعاقدين الذين توافدوا من باقي ولايات الوطن، ووصل عددهم يومها وتحديدا يوم الأحد الماضي إلى 3000 أستاذ كانوا يأملون بلوغ العاصمة يوم الاثنين، “لكن خوف السلطة من قضيتنا دفعها لتوقيفنا على مشارف العاصمة مباشرة بعد خروجنا من ثانوية الشهيد محمد قويقح”.“الموت جوعا ولا العدول عن قضيتنا” “بعد أن أجهضت مصالح الأمن مسيرتنا وعلى بعد أقل من 35 كلم فقط من العاصمة، قررنا تنفيذ الخطط البديلة، الخطة س«، وهي الدخول في إضراب عن الطعام والاعتصام في المكان الذي أطلق عليه “ميدان الإدماج”، حيث قاد ممثلون عن التنسيقية مفاوضات فاشلة مع وفد وزيرة التربية، ممثلا في رئيس ديوان الوزارة، مستشار وزيرة التربية، مدير الموارد البشرية، مديري التربية لولايات بومرداس وعنابة والعاصمة، الوفد الذي جاء للتفاوض مع المحتجين الذين أوقفوا مفاوضاتهم بمجرد ما أخبرهم الوفد الوزاري أن الإدماج المباشر وترسيمهم بمناصبهم مستحيل، وأن الوزارة بالتنسيق مع مديرية الوظيف العمومي ستحتسب 6 نقاط كاملة عن الخبرة المهنية لهؤلاء، وهو ما دفعنا للإصرار على مواصلة زحفهم الأكبر نحو العاصمة، غير أن قرار المنع بحجة “منع المسيرات في العاصمة” دفع منصورية وعائلتها الثانية المشكلة من ألف أستاذ للإقامة في بودواو وافتراش الأرض والمبيت بالعراء وتنفيذ تهديدهم بالدخول في إضراب عن الطعام، وهو ما لم تتراجع عنه منصورية التي عاشت جميع هذه التفاصيل بحذافيرها، خاصة أنها كانت ضمن الوفد المفاوض للوزيرة في أول لقاء جمعها بممثلي الأساتذة المحتجين.في “ميدان الإدماج”.. مأساة إنسانيةعن أول ليلة قضتها أستاذة اللغة الإنجليزية بمتوسطة حمدي بوزيان في غليزان في العراء، أكدت أن كل الكلمات والعبارات لن تكفي لوصف صعوبتها، فبالمقارنة مع المشي من ولاية لأخرى على الأقدام والمبيت بالمؤسسات التربوية، فإن أول ليلة في “ميدان الإدماج” من ليلة الاثنين إلى الثلاثاء هي أصعب ليلة واجهتها محدثتنا التي أكدت أنها قضتها وهي تكلم زوجها عبر الهاتف، وكان يمنحها الدعم والسند المعنوي، تضيف وبتأثر كبير “بالرغم من الأمان والحراسة التي وفرها زملاؤنا وإخواننا الأساتذة الذين باتوا يحرسوننا، إلا أن النوم هجر جفوني واشتياقي لبناتي قض مضجعي”، ناهيك عن البرد والأمطار التي بللتها صبيحة الثلاثاء والجوع والتعب الذي أنهك جسدها الهزيل الذي لم يكفه الماء والسكر، وهو ما جعلها تفكر في العدول عن فكرة المكوث بالميدان والعودة لحضن بناتها، وقد تأثرت بمجرد ما سألناها عنهن، وقالت إنها دائمة التفكير فيهن، خاصة أن الأولى والثانية لا تزاولان دراستهما حاليا لبعدها عنهما، في وقت يتكفل زوجها بالاعتناء بهن، إلا أنها تراجعت وقررت مساندة الآخرين وتحمل المشاق.“زوجي هو سندي ودعمي”تقول منصورية “أستمد دعما وسندا كبيرين من زوجي الذي يشتغل أستاذا جامعيا من أجل مواصلة النضال بهدف تحقيق هدفنا” وقالت إنها تحملت عناء التنقل من مستغانم التي تقيم بها بعد زواجها، وغليزان مسقط رأسها وتعمل متعاقدة بإحدى متوسطاتها، حيث تتنقل كل صباح ومساء مسافة 60 كلم وتسهر على تعليم عشرات التلاميذ وتلقينهم اللغة الحية الأولى في العالم، وهو الأمر الذي جعلها تصر على إدماجها، مع العلم أنها تخرجت من الجامعة سنة 2005، ولها خبرة تجاوزت 3 سنوات في التعليم، ما يمكنها من التواصل مع التلاميذ بسهولة، رغم أنها تتقاضى راتبها نهاية السنة الدراسية، إلا أن هذا لم يحبط عزيمتها في تعليم تلاميذها الذين أكدت أنهم لن يقبلوا بغيرها لصلابة العلاقة التي تربطها بهم. 

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات