ما أجمل التفكير الحر بلا وصاية ولا سلطة وبدون تأطير للذهنية أو تحت ضغط التزام ببيعة لمرشد تنظيم أو أمير جماعة، إصرارا على النأي بالنفس بعيدا عن أي ولاء يوجب تقييدا، أو يخلق عصبية تقف في طريق البحث عن الحقيقة، إنها الحرية تلك القيمة العليا المقدسة، حرية التفكير والتعبير والقراءة، اقرأ فقط، اقرأ نفسك والكون والطبيعة وكل شيء من حولك، اقرأ بحرية وتجرد بعيدا عن أي هوى، إنه الخط الذي ينبغي الثبات عليه في طريق الاجتهاد والتجديد في زمن غلب عليه الجهل والقصور وتغلبت عليه العاطفة والانفعال، وأدى فيه التقديس المغلوط وعدم القدرة على التجريد إلى العجز عن التفكير والجرأة على التدبر والخوف على الموقع والمكانة في حال مخالفة ما اعتاد عليه الناس حبا للذات وتمركزا حول شهواتها. بتأثير من هذا الدفع المعنوي الحر وبشيء من التراكم والفضول المعرفي، تثور أمامك مجموعة من القضايا لم يبذل المسلمون في عصرنا جهدا فكريا كبيرا لحلها بسبب عدم الحضور المعرفي لفلسفة الزمن في محاولات اجتهادهم المتوقف، الأمر الذي أدى إلى غياب منهجيات ومقاربات جديدة في التعامل مع النصوص، وأرى أن بداية التجديد تنطلق سيكولوجيا من العقيدة، فطالما المسلم مؤمن بكل أركان عقيدته ما هي أسباب التوجس العقدي الذي يحول بينه وبين طرح التساؤل الآتي: هل الحالة التي ظهر عليها الإسلام في الواقع على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام هي الأمثل من حيث فهم النصوص على امتداد الزمن؟ أم أن الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة رضوان الله عليهم قد تعاملوا مع القرآن الكريم من خلال السيرورة التاريخية البحتة للعرب زمانا ومكانا وفقا لمستواهم المعرفي وحسب الإشكاليات المطروحة أمامهم، بمعنى أن الاجتهاد في التأويل والتفسير من المفترض أن ينطلق من استيعاب فلسفة الزمن في التعامل مع النص، لأنه عندما نقول دائما في خطاباتنا لابد من العودة بـ “مفهوم زمني” إلى الإسلام معناه العودة إلى استيعاب خضع لمستوى وحدود المعرفة والعلم في ذلك الزمان ووفقا لتلك المرحلة من التاريخ، ومن هنا تأتي فكرة التقدم نحو الإسلام، بمعنى أن المسلمين يقرؤون القرآن في كل عصر بمستوى معارفهم في ذلك العصر، وهي قراءة تخضع للسيرورة المعرفية المتحركة حتى قيام الساعة ولا يمكن التأويل الكامل للقرآن إلا مع اليوم الآخر، ومن هنا تأتي فكرة التقدم نحو الإسلام اجتهادا، فالإنسان في كل عصر يقرأ القرآن وفق نظام معرفي معين يخضع لمسلمات معينة هي نتاج ذلك العصر، ويبحث في إشكاليات معرفية واجتماعية محددة هي التي أفرزتها تلك المرحلة من التاريخ، ولذلك، فإن فهمنا لنصوص القرآن متطور وفق صيرورة لا تتوقف، مع علمنا بأن النص من حيث الكينونة ثابت، ومرحلة الرسول عليه الصلاة والسلام هي التجلي الأول لأثر الوحي على البشرية في زمان محدد هو القرن السابع الميلادي وفي مكان محدد هو شبه الجزيرة العربية ووفق فهم محدد يخضع لنقطة زمنية محددة تقع على الخط الزمني للصيرورة التي تمر علينا اليوم في فراغ، على اعتبار أن باب الاجتهاد مغلق اليوم، فما يسمى بالعلماء اليوم هم المثقفون ثقافة دينية شبه بدائية وهو الحافظون المكررون لتراث السلف، ومن هذا المنطلق نؤكد على أن فكرة الصيرورة ومبدأ التقدم نحو الإسلام سيحدد مفهوما جديدا للسلف والسلفية غير منفصل عن الزمن، وبداية القرآن الكريم بكلمة اقرأ دليل على هذه السيرورة المستمرة إلى يوم الدين والقائمة على القراءات المتجددة للقرآن والواقع بمناهج جديدة تخضع لتساؤل كبير يطرح كالآتي: هل الحالة التي ظهر عليها الإسلام في بداياته هي الأمثل من حيث استيعاب وإدراك مقاصده عند المولى عزوجل، أم أن الأمثل قد يتحقق في مراحل لاحقة، كلما تقدم الإنسان في الاجتهاد والابتكار والإبداع سعيا وراء الإمساك في لحظات تاريخية خاصة بالمقصد الإلهي، ويمكن عندئذ طرح كل الإشكاليات القائمة وما أكثرها. إذن مع الإسلام نعيش ثورات معرفية متتالية ونماذج معرفية مختلفة من عصر إلى عصر وقطائع معرفية أيضا هي التي تنبئ بتجل جديد للإسلام والوحي في عصر جديد، وكل ذلك يقوم على استيعاب فلسفة الزمن والتاريخ والتاريخانية وفلسفة المقاصد، إنها ثورة الإسلام المعرفية القائمة على كلمة اقرأ الخالدة وعلى مفهوم صحيح للزمن، كل ذلك يتم تحت رعاية فلسفة المقاصد وفي ظلها، ووفق هذه المنهجية يتم بحث قضايا إشكالية يتردد كثيرون في تناولها مثل ضرب المرأة وذوات اليمين والتعدد والحاكمية ...الخوفي ظل هذه المعطيات، يمكن القول بأن الفكرة المسطحة والمتكررة عن ضرورة العودة إلى الإسلام لا جدوى منها، وفقهيا يمكن التعبير عن تلك العودة بالقياس الذي ينبغي إخضاعه هو الآخر كأداة إلى فلسفة الزمن والسيرورة، ومن هنا نصر على طرح فكرة التقدم نحو الإسلام بالاجتهاد والابتكار والإبداع، فنحن نتعامل مع الإسلام ومصدره الله عزوجل، ونتعامل مع الفقه والتفسير على أساس أن مصدرهما الإنسان الخاضع هو واجتهاده وفهمه للنص للسيرورة والزمن، والمسألة خارجة تماما عن قضية التقوى من عدمها وعن التوجس العقدي.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات