الشّيــخ محمــّد الغـزالي .. ثورة ضد الجمود والتخلف

+ -

 “صاحب الرسالة يعيش لفكرته، ويعيش في فكرته، فحياته فكرة مجسّمة تتحرّك بين الناس، تحاول أبدًا أن تفرض نفسها على الدّنيا، وأن تغرس في حاضر الناس جذورها؛ لتمتد على مرّ الأيام والليالي فروعًا متشابكة تظلل المستقبل وتتغلغل فيه”. على أساس هذه المقولة.. عاش الداعية المجدّد الشّيخ محمّد الغزالي رحمه الله الذي كان صاحب رسالة دعوية وإصلاحية ملكت حياته، ووجّهت خطواته؛ فوقف بين الدعاة علمًا، وبين المصلحين طودًا شامخًا، وبين مفكري وكُتَّاب النّهضة قلمًا وسيفًا مصلتا على أسباب التخلّف، إذ عاش للإسلام، ونذر حياته لخدمته، وسخَّر قلمه وفكره في بيان مقاصده، وجلاء أهدافه، وشرح مبادئه، والذّود عن حِماه، ومقارعة خصومه.وُلِد محمّد الغزالي أحمد السّقا في 5 ذي الحجة 1335هـ/22 سبتمبر 1917م، بقرية نكلا العنب في إيتاي البارود بمحافظة البحيرة في مصر. وقد سماه والده محمّد الغزالي تيمنًا بالإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى الذي كان يحبه كثيرا.نشأ الشّيخ محمّد الغزالي في أسرة كريمة ملتزمة بتعاليم الإسلام، يغلب عليها العمل بالتجارة، وكان والده من حفظة القرآن الكريم، وقد نشأ الابن على ذلك، فأتمَّ حفظ القرآن الكريم بكُتّاب القرية في العاشرة، يقول الغزالي عن نفسه “كنتُ أتدرّب على إجادة الحفظ بالتّلاوة في غُدُوِّي ورواحي، وأختِم القرآن في تتابع صلواتي، وقبل نومي، وفي وحدتي، وأذكر أنّني ختمتُه أثناء اعتقالي، فقد كان القرآن مؤنسًا في تلك الوحدة الموحشة”.طلبه للعلمتلقّى تعليمه في كتّاب القرية، ثمّ التحق بمعهد الإسكندرية الدّيني الابتدائي حتّى حصل على شهادة الكفاءة، ثمّ الثانوية الأزهرية، ثمّ انتقل إلى القاهرة سنة 1356هـ/1937م، فالتحق بكلية أصول الدّين بالأزهر الشّريف، وبدأت كتاباته في جريدة (الإخوان المسلمون) أثناء دراسته بالسنة الثالثة في الكلية سنة 1359هـ/1940م، وظلَّ الإمام حسن البنا يشجِّعه على الكتابة حتّى تخرَّج سنة 1360هـ/1941م، ثمّ حصل على درجة العالمية تخصص الدعوة والإرشاد سنة 1362هـ/1943م، وعمره 26 سنةً، ثمّ بدأت بعدها رحلته في الدعوة في مساجد القاهرة.تلقَّى الشّيخ محمّد الغزالي العلم عن الشّيخ عبد العظيم الزرقاني، والشّيخ محمود شلتوت، والشّيخ محمّد أبي زهرة، والدكتور محمد يوسف موسى وغيرهم من علماء الأزهر الشّريف. وقد انضمّ في شبابه إلى جماعة الإخوان المسلمين وتأثَّر بمرشدها الأوّل الإمام حسن البنا. يقول الشيخ الغزالي عن هذه الفترة من حياته “وإنّي أعترف -رَادًّا الفضل لأهله- بأنّي واحد من التلامذة الّذين جَلسوا إلى حسن البنا، وانتصحوا بأدبه، واستقاموا بتوجيهه، واستفادوا من يقظاته ولَمَحَاته”.بعد تخرّج الشّيخ الغزالي، عمل إمامًا وخطيبًا في مسجد العتبة الخضراء، ثمّ تدرّج في الوظائف حتّى صار مفتشًا في المساجد، ثمّ واعظًا بالأزهر، ثمّ وكيلاً لقسم المساجد، ثمّ مديرًا للمساجد، ثمّ مديرًا للتّدريب فمديرًا للدّعوة والإرشاد. وقد ظهر أوّل مؤلَّفاته للنّور تحت عنوان “الإسلام والأوضاع الاقتصادية” سنة 1947م، وفي العام التالي تمّ حلُّ جماعة الإخوان المسلمين، واعتقال أعضائها ومنهم الشّيخ الغزالي، حيث أُودِعَ معتقلَ الطور سنة 1369هـ/1949م، وقضى فيه حوالي سنة.تتلمذ على فضيلة الشّيخ محمّد الغزالي عدد كبير من طلبة العلم الّذين صاروا فيما بعد علماء أجلاء ودعاة كبارا طبقت شهرتهم الآفاق، ومن هؤلاء الشّيخ يوسف القرضاوي، الشّيخ منّاع القطان، والدكتور أحمد العسّال.. وغيرهم.إقامته في الجزائرانتقل الشّيخ محمّد الغزالي إلى الجزائر ليَعمل رئيسًا للمجلس العلمي لجامعة الأمير عبد القادر الإسلامية بقسنطينة، ولم يقتصر أثر جهده على تطوير الجامعة، وزيادة عدد كلياتها، ووضع المناهج العلمية والتقاليد الجامعية، بل امتدّ ليشمل الجزائر كلّها؛ حيث كان له حديث أسبوعي مساء كل يوم اثنين يبثّه التلفزيون الجزائري، ويترقّبه الجزائريون لما يجدون فيه من معانٍ جديدة وأفكار تعين في فهم الإسلام والحياة. وقضى 7 سنوات في الجزائر.نال فضيلة الشّيخ محمّد الغزالي العديد من الجوائز والتّكريم الّذي كان أهلاً له؛ ومن أهم الجوائز الّتي حصل عليها: جائزة الملك فيصل العالمية للعلوم الإسلامية بالرياض في المملكة العربية السعودية سنة 1989م.إنتاجه العلميللشّيخ الغزالي مؤلّفات كثيرة جاوزت الستين كتابًا في موضوعات مختلفة، بالإضافة للمحاضرات والنّدوات والخطب والمواعظ والدّروس والمناظرات الّتي كان يلقيها في كثير من الأمصار، وإنّ خطبه في الجامع الأزهر الشّريف وجامع عمرو بن الـعاص وخطب العيد في ميدان عابدين وجامع مصطفى محمود بمصر، إلى جانب دروس الاثنين الّتي كان يبثّها التلفزيون الجزائري، وأيضًا الدّروس الّتي كان يلقيها في المساجد الجزائرية وخاصة في مدينة قسنطينة العريقة والمحاضرات الّتي كان يلقيها على الطلبة في جامعة الأمير عبد القادر الجزائري، لها شأن عظيم وأثر بالغ كبير، حيث كان يحضرها الآلاف.كما تُرجم الكثير من مؤلّفات الشّيخ إلى العديد من اللغات، كالإنجليزية والفرنسية والتركية والفارسية والأوردية والإندونيسية وغيرها. ومعظم الّذين قاموا بهذه التراجم هم من تلامذة الشّيخ الغزالي ومحبّيه وعارفي فضله الّذين استفادوا من فيض علمه وعطائه.تميَّز فكر الشّيخ محمّد الغزالي السقا بأنّه حمل في طيّاته مشروعًا فكريًّا، ما لبث أنَّ تحوّل إلى مشروعٍ حضاريٍ مأمول تنفيذه وتحقيقه على الأرض. وكان الخط العريض لهذا المشروع الرّائد يتمحور حول الإصلاح الاجتماعي الّذي رأى أنّه القاطرة الدّافعة لأيّ إصلاح آخر مرجو، وكانت أهم آليات الوصول لهذا الإصلاح عنده الاهتمام بقضايا المرأة المسلمة، وإزالة غبار الزمان والمكان الكثيف الذي أُثير حول أوضاعها في المجتمع، رغم أنَّ أعظم التكريم لها كان في كنف الإسلام.مشروعه الفكري الحضاريمثّلت حياة الشيخ محمّد الغزالي حلقة قويّة من حلقات الفكر الإسلامي الرّاشد، وسلسلة متواصلة من المعارك الفكرية في سبيل نهضة العقل المسلم. قال رحمه الله “إنّ الجهد الأوّل المطلوب هو تحريك قافلة الإسلام الّتي توقفت في وقت تقدم حتّى فيه عبيد البقر! وسوف تتلاشى التحديّات الّتي تواجهنا يوم يعتنق المسلمون الإسلام ويدخلون فيه أفواجًا، حكامًا وشعوبًا”. وفي مواجهة الاستبداد المالي والمظالم الاجتماعية، خاض رحمه الله أوّل معاركه الفكرية، فأصدر عدّة مؤلّفات كانت لبنة في مشروعه الحضاري: “الإسلام والأوضاع الاقتصادية”، “الإسلام والمناهج الاشتراكية”، “الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين”، “الإسلام في مواجهة الزحف الأحمر”، إذ قدّم فيها فكرًا تنافسيًا ثوريًا “لقد رأيتُ بعد تجارب عدّة أنّني لا أستطيع أن أجد بين الطبقات البائسة الجوّ الملائم لغرس العقائد العظيمة والأعمال الصّالحة والأخلاق الفاضلة، إنّه من العسير جدًّا أن تملأ قلب إنسان بالهدى إذا كانت معدته خالية، أو أن تكسوه بلباس التّقوى إذا كان بدنه عاريا ولا بدّ من التمهيد الاقتصادي الواسع والإصلاح العمراني الشّامل إذا كنّا مخلصين حقًا في محاربة المعاصي والرّذائل والمعاصي باسم الدّين أو راغبين حقًّا في هداية النّاس لربّ العالمين”.مكانة القرآن الكريماهتم الشّيخ محمّد الغزالي طوال حياته بالقرآن، وجعله محور العمل في كلّ شيء، فإذا استقى علمًا فمِن القرآن، وإذا أراد الحُكم في أيّ موضوع فالقرآن هو المرجع، فكان رحمه الله من العلماء المجتهدين اجتهادًا مبنيًا على المرونة والمقاصد وكليات الدِّين.ويستشهد الغزالي على المكانة الّتي أولاها الله تعالى للقرآن فيقول: “ذكرتُ يومًا أنّه عندما أراد ربّنا أن يتكلّم عن بركته وامتداد نعمه، ذكر مرّة القرآن ومرّة الكون: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} المُلك:1، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} الفُرقان:1. وعندما أراد أن يذكر أنّه أهل الثّناء الحسن والحمد والشُّكران، قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الأنعام:1، وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} الكهف:1. وهذا التّوازن بين الكون والوحيّ يبقى لآخر الزّمن كلاهما يدلّ على الآخر”. وهو المحور الّذي ارتكزت عليه الدّعوة الإسلامية، فالإسلام “علم واسع الدّوائر وقرآنه الكريم كون مسطور يضارع الكون المنظور في تفتيق العقول وتجلية الفطرة”.وأكبر مظهر لمكانة القرآن الكريم عنده حضوره في كلّ أعماله رحمه الله، لأنّه ندب نفسه لحمايته والدّفاع عنه وردّ ما ران على عقول النّاس من خلفية بعيدة عن حقيقته، سواء من المؤمنين به أو الكافرين الجاحدين له.تشخيصه حال الأمّة من القرآن وتصحيحهكما حفلت أعمال الشّيخ محمّد الغزالي بالسّعي الحثيث لتصوير حال الأمّة، حيث سبر أوضاع الأمّة ووقف على أسباب تخلّفها، بل كان هذا الواقع أشدّ ما يؤلمه في حياته وعاش على أمل تغييره، ولم يكن يرى أسبابه من خارج الأمّة فحسب، بل كان تشخيصه منطلقًا من واقع الأمّة وممّا كسبت أيدينا من تعاملنا غير السّليم مع القرآن الكريم، تعاملاً يتطلّب الكثير من العمل والجرأة في الاعتراف بهذا الواقع، والإيمان بوجوب تغييره، وهذا هو السّبب الّذي جعل بعض المسلمين لا يتّفقون معه، وغيرهم يكيد له؛ لأنّ الّذي يدعو إليه يتعارض بل يصادم مصالحهم. وترتكز آراء الشّيخ الغزالي في إصلاح الوضع على العودة المخلصة الجادة إلى القرآن الكريم، عودة في طرق التّدريس والتّعليم، وعودة في منهج الفهم، وفي التّعامل بمعناه الواسع، حتّى يعود القرآن مركز الدّائرة في ثقافة المسلم المعاصر، ومحور تفكيره ومنهج حياته.معركته ضدّ الجمود والحرفيّةكانت معركة الشّيخ محمّد الغزالي مع الجمود والحرفية النّصوصية الّتي تغضّ من شأن ملكة العقل فتفلّ عزم المسلمين في مواجهة التحديّات المعاصرة وتكرّس التخلّف الموروث، وقد ألّف في هذا المضمار كتابين: “دستور الوحدة الثقافية” و “السنّة النّبويّة بين أهل الفقه وأهل الحديث”. وممّا قاله رحمه الله: “إنّ بعض البُله يتصوّر الأنبياء أبواقًا لأمين الوحي يردّدون ما يلقيه إليهم، فإذا انصرف عنهم هبطوا لمستوى الدهماء وخبا نورهم! أيّ غفلة في هذا التصور”، وأضاف “لقد كان الفقهاء على امتداد تاريخنا العلمي هم القادة الموثّقين للأمّة، الّذين أسلمت لهم زمامها عن رضا وطمأنينة، وقنع أهل الحديث بما يتناقلون من آثار.. فلا فقه بغير سُنّة ولا سُنّة بغير فقه، والواقع أنّ كلاَ الفريقين يحتاج إلى الآخر”.الاستبداد السياسييعدّ الاستبداد السياسي أحد أهم المعارك الّتي خاضها الشّيخ الغزالي، والّتي مثّلت مَعلمًا بارزًا من معالم مشروعه الفكري، باعتبار أنّ الاستبداد حَرَمَ الأمّة الإسلامية من ثمرات الشُّورى الإسلامية، فأعجزها عن مواجهة تبعات رسالتها ومجابهة تحديات أعدائها. حيث قدّم في هذا الميدان عدّة إصدارات منها: “الإسلام والاستبداد السياسي”، “حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة”. ويُحسَب للشّيخ الغزالي جرأته البالغة وشجاعته النّادرة في بيان حقائق الإسلام، في وقت آثرت غالبية النّاس الصّمت والسّكون؛ لأنّ فيه نجاة حياتهم من هول ما يسمعون في المعتقلات.المرأة في فكر الغزاليأثارت منهجية الشّيخ محمّد الغزالي في دفاعاته الّتي تستند إلى القرآن الكريم والسنّة النّبويّة الصّحيحة إلى جانب اجتهاداته الخاصة، بحكم الإيقاع السريع، جدلاً بين العلماء والفقهاء، إذ يخاطب المرأة المسلمة حيث وُجِدَت فوق هذه المعمورة لا من موقع إقليمي وعربي، موضّحًا أنّ مصاب الإسلام في المتحدثين عنه لا في الأحاديث نفسها، ففي قضايا المرأة أحاديث موضوعة صحّحها الغرض وأحاديث صحيحة حُرّفت عن موضوعها. وكان الشّيخ محاربًا على جبهتي الإفراط والتّفريط، “إنّنا لا نريد أن ننقل المرأة من عصر الحريم إلى عصر الحرام”، وتناول قضايا المرأة على اختلاف جوانبها؛ إذ كان يَرَى أنّ تقهقر الأمّة الإسلامية في العصور الأخيرة يعود إلى العجز الشّائن في فهم موقف الإسلام الصّحيح عن المرأة. حيث تطرّق لقضية النّقاب، وصوت المرأة حيث يرى أنّه ليس بعورة، وتفوّقها العلمي، وموضوع الاختلاط وتحديد ضوابط لذلك، ودورها في مؤسسة المسجد..وفاتهتوفي الشّيخ محمّد الغزالي في الرياض يوم 09 مارس 1996م-1416هـ، إثر أزمة قلبية فاجأته في ندوة “الإسلام والغرب”، ونُقل إلى المدينة المنورة، حيث دُفن في مقابر البقيع.   

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات