+ -

حياة الإنسان لا تدوم على حال، ولا يستقرّ لها قرار، فالمرء كلّما تطلّع إلى أمر طلب غيره، وكلّما كان على حال تاقت نفسه إلى أخرى، وكلّما اشتهى شيئًا وحصل عليه سعى إلى غيره، وكلّما وصل إلى منصب أو مكانة طمع في غيرها، في الصّحيحين من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: سمعتُ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: “لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب، ويتوب الله على مَن تاب”. قد جاء الإسلام فعالج هذه النّفسيات، وربّى العباد على الرِّضا بما قسم الله لهم من أرزاق وأقدار وأحوال: {أهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ، نحنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا، وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}، وفي صحيح مسلم: “ليس الغنى كثرة الْعَرَضِ، ولكنَّ الغنى غنى النّفس”.وليس معنى الرِّضا أن نستسلم لواقع بإمكاننا تغييره بالسّعي والأخذ بالأسباب، كالتّداوي من مرض، أو السّعي وراء الرِّزق، أو دفع ضرر ما، لأنّ الاستسلام هو الانهزام، وعدم بذل الجهد والأخذ بالأسباب لتحقيق الهدف، أمّا الرّضا فهو استفراغك الوسع، وبَذْلُك الجهد في تحقيق الهدف، لكن إن لم توفّق إليه ترضى بما قسم الله لك، من غير جزع أو ضجر أو سخط، كالّذي ابتلاه الله مثلاً بضيق ذات اليد، فاجتهد في تحصيل الغنى فلم يوفَّق، هنا يأتي التحلّي بصفة الرّضا بما كتبه الله، دخل الإمام عليّ رضي الله عنه على رجل يُعزّيه في مصاب حلّ به فقال له: إن صبرتَ جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت مأثوم.فالسّعيد الحقّ هو مَن رضي بما قسم الله له، وصبر لمواقع القضاء خيره وشرّه، وأحسّ وذاق طعم الإيمان، كما بيّن المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: “ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمَّد رسولاً”، فالخير كلّه في الرّضا، عند الترمذي من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “مَن قال حين يمسي رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمّد نبيًّا، كان حقًا على الله أن يرضيَهُ”، وعند ابن ماجه من حديث أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: “عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإنّ الله إذا أحبّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرّضا، ومن سخط فله السُّخْطُ”.يقول ابن القيم رحمه الله: “الرّضا باب الله الأعظم، وجنّة الدّنيا، ومستراح العابدين، وقُرّة عيون المشتاقين، ومن ملأ قلبه من الرّضا بالقدر، ملأ الله صدره غنى وأمنًا، وفرغ قلبه لمحبّته والإنابة إليه والتوكّل عليه، ومن فاته حظّه من الرّضا، امتلأ قلبه بضدّ ذلك، واشتغل عمّا فيه سعادته وفلاحه”. لمّا نزل بحذيفة بن اليمان الموت جزع جزعًا شديدًا فقيل له: ما يُبكيك؟ قال: ما أبكي أسفًا على الدّنيا، بل الموت أحبّ إليّ، ولكنّي لا أدري على ما أقدُم: على الرّضا أم على سخط؟ ولمّا قدم سعد بن أبي وقاص إلى مكّة، وكان قد كُفَّ بصره، جاءه النّاس يهرعون إليه كلّ واحد يسأله أن يدعو له، فيدعو لهذا ولهذا، فقد كان مجاب الدّعوة، قال عبد الله بن السّائب: فأتيته وأنا غلام، فتعرّفت عليه فعرفني وقال: أنت قارئ أهل مكّة؟ قلت: نعم، ثمّ قلت له: يا عم، أنت تدعو للنّاس، فلو دعوت لنفسك، فردَّ الله عليك بصرك، فتبسّم وقال: يا بني، قضاء الله سبحانه عندي أحسن من بصري.والرّضا هو السياج الّذي يحمي المسلم من تقلّبات الزّمن، وهو البستان الوارف الظلال الّذي يأوي إليه المؤمن من هجير الحياة، والإنسان بدون الرّضا يقع فريسة لليأس، وتتناوشه الهموم والغموم من كلّ حدب وصوب، ولن يجد ملاذًا ولا راحة من الطمع والجشع والحسد وأمراض القلوب وسخط علام الغيوب إلاّ بالرّضا بما قسم الله، ولقد ضرب لنا المصطفى صلّى الله عليه وسلّم النّموذج والمثل الأعلى في الرّضا بما قسم الله تعالى، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله لو اتّخذنا لك وطاء، فقال: “ما لي وما للدّنيا، ما أنا في الدّنيا إلاّ كراكب استظلّ تحت شجرة ثمّ راح وتركها”.وأختم بهذ الحديث الرقراق الّذي أخرجه الشّيخان في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: “إنّ الله يقول لأهل الجنّة: يا أهل الجنّة، فيقولون: لبّيك ربّنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربّ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: يا ربّ وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا”.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات