لقد بذلت مدرسة المنار جهودًا متّصلة لتصحيح المعرفة الدّينية، فحاربت التقليد المذهبي الجامد، كما حاربت الأحاديث الضعيفة، وضبطت داخل الهداية القرآنية الأحاديث الصّحاح، وطاردت قضايا كلامية وتضليلات سياسية.. واستطاع محمّد رشيد رضا أن يسوّق توجيهات محمّد عبده وسط حشد من الآثار المحرّرة. بَيْدَ أنّ قوى شرّيرة من الداخل والخارج اعترضت هذا الخير الدّافق.ومن هنا قدر الغزو الثقافي على بلبلة الجماعة الإسلامية وتبديد طاقاتها في غير طائل، فإنّ كثيرًا ممّن أحبّ الإسلام وحَنّ إلى العودة إليه قدّم للإسلام أو قدم إليه الإسلام جملة معارف من عهود الاضمحلال ومن أيّام الهزائم الفكرية والخلقية لأمّتنا خلال مسارها الطّويل، فلم يستطع معالجة الانحراف في دنيا المال والحكم إلاّ بالعِظات..وضمّ العالم الإسلامي في أرجائه الرّحبة أبخل أغنياء وأخبث ساسة وسكت رجال العِلم الدّيني التّقليديون! ترى ما أسكتهم؟ ليس لديهم ما يقولون ليسدّوا الطّريق أمام التحدّي الثقافي القادم من الخارج.ودَعْكَ من ميادين الاقتصاد والسياسة ومن عالم الإنتاج والإدارة وتحريك الحياة والأحياء! ولنذهب إلى المحاريب، وتزكية النّفوس وترقيق القلوب وبناء الأخلاق وتوفير الباقيات الصّالحات.. إنّني بعد تأمّل طويل وجدتُ ثروتنا من هذه المعاني الغالية قليلة، وزادنا غير كاف لمغالبة حضارة ساحرة الإغراء كثيرة الأحابيل. فما العمل؟العمل إعادة النّظر في ثقافتنا كلّها، أعني ثقافتنا الذّاتية، لننبذ منها ما ليس له رصيد من هداية الله.. وإعادة النّظر في العلوم الكونية والإنسانية الّتي تموج بها الأرض لنقتبس منها ما نحتاج إليه على عجل. ولذلك تفصيل ومنهاج.. في الإنسان غرائز دنيا تشدّه إلى تحت، وفيه خصائص كريمة تدفعه إلى فوق، فإذا كانت هذه الخصائص أشدّ قوّة ذهبت بالإنسان صعدًا إلى آفاق الحقّ والخير والجمال.. وإن كانت مساوية لغريمتها ذهب السّالب في الموجب وبقي المرء في موضعه.. وإن كانت أضعف منها أخْلَد إلى الأرض واتّبع هواه، فلم تره إلاّ مبطلاً شريرًا دميم الرّوح.والّذي أقصده أنّ تحصيل الكمال يحتاج إلى معاناة علمية وخلقية.. فالكريم لن يكون كريمًا إلاّ إذا قهر الشحّ، والشجاع لا يكون شجاعًا إلاّ إذا هَزَم بواعث الخوف.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات