يقول الحقّ سبحانه: {قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ، تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ، وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ، بِيَدِكَ الخَيْرُ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. يقول تبارك وتعالى: قُل يا محمّد معظّمًا لربّك، وشاكرًا له، ومفوّضًا أمرك إليه، ومتوكّلاً عليه: اللّهمّ مالك الملك، المراد بالملك، قيل: النّبوة، وقيل: الغلبة، وقيل: المال، وقيل غير ذلك، والصّحيح الّذي رجّحه بعض المفسرين أنّه عام لما يصدق عليه اسم الملك من غير تخصيص، فقوله: {تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ، وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ}، أي: أنت المعطي، وأنت المانع، وأنت الّذي ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن، وأنت المتصرّف في خلقك كما تريد: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: أي: أنتَ المتصرّف في خلقك، الفعّال لمَا تُريد، كما ردّ تبارك وتعالى على مَن يتحكّم عليه في أمره، حيث قال: {وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}، قال الله تعالى ردًا عليهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ، نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} أي: نحن نتصرّف في خلقنا كما نريد، بلا ممانع ولا مدافع، ولنا الحكمة والحجّة في ذلك:{بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: الخير كلّه منك، ولا يأتي بالحسنات والخيرات إلاّ الله، وأمّا الشرّ فإنّه لا يضاف إلى الله لا وصفًا ولا اسمًا، ولكنّه يدخل في مفعولاته، ويندرج في قضائه وقدره، فالخير والشرّ داخل في القضاء والقدر، فلا يقع في ملكه إلاّ ما شاء، ولكن لا يضاف إلى الله، فلا يقال: بيدك الخير والشرّ، ولكن بيدك الخير كما قال الله.يروي الإمام مسلم في صحيحه من حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في دعائه في قيام اللّيل أنّه كان يقول: “والخيرُ كلُّه في يديك والشرّ ليس إليك”.وإنّ ممّا يُستفاد من الآيتين الكريمتين: أنّ فيهما تنبيهًا وإرشادًا إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله صلّى الله عليه وسلّم وهذه الأمّة؛ لأنّ الله تعالى حوّل النّبوة من بني إسرائيل إلى النّبيّ العربي محمّد صلّى الله عليه وسلّم، خاتم الأنبياء على الإطلاق، ورسول الله إلى الثقلين، الّذي جمع الله فيه محاسن مَن كان قبله، وخصّه بخصائص لم يعطها نبيًّا من الأنبياء ولا رسولاً من الرّسل، من العلم بالله وشريعته، وإطلاعه على الغيوب الماضية والآتية، وكشفه له عن حقائق الآخرة، ونشر أمّته في الآفاق في مشارق الأرض ومغاربها، وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان والشّرائع، فصلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدّين ما تعاقب اللّيل والنّهار، فالعزّة لا تطلب إلاّ من الله تعالى، وهي إنّما تأتي بطاعته واجتناب معصيته: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَللهِ العِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}، {بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ، أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعًا}.خاطب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم الأنصار يومًا فقال: “يا معشر الأنصار، ألم تكونوا أذلّة فأعزّكم الله؟ قالوا: صدق الله ورسوله”، فالذلّ الّذي يصيب الإنسان إنّما هو بمعصيته لله ولرسوله، قال تعالى حاكيًا عن بني إسرائيل عندما عصوا ربّهم: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ الله، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}. في مسند الإمام أحمد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنّه عليه الصّلاة والسّلام قال: “بُعِثْتُ بين يدي السّاعة بالسّيف حتّى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظلّ رمحي، وجعل الذلّ والصّغار على من خالف أمري، ومن تشبّه بقوم فهو منهم”.ربّنا سبحانه هو القادر على كلّ شيء، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السّماء، ولذلك يشرع للمؤمن أن يسأل الله بقدرته أن ييسر له الخير، ويصرف عنه الشرّ، يروي الإمام مسلم في صحيحه من حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه أنّه شكا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعًا يجده في جسده فقال له: “ضع يدك على الّذي تألم من جسدك ثمّ قل: باسم الله ثلاثًا، وقُل سبع مرّات: أعوذ بالله وقدرته من شرّ ما أجد وأحاذر”.وأخيرًا نستنبط من الآيتين: فضل الدّعاء وأهميته، فقد كان السّلف يدعون فيقولون: اللّهمّ أعزّني بطاعتك، ولا تذلّني بمعصيتك، وينبغي للمؤمن أن يسأل الله من خيري الدّنيا والآخرة: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}. وفي الصّحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: “اللّهمّ ربَّنا آتنا في الدُّنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النَّار”.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات