"أمبيرتو إيكو كان يسعى لتأسيس سيميولوجيا وإعلام جديدين"

+ -

يكشف الدكتور الطيب بودربالة جزءا من الحياة الابستمولوجية لحياة الفيلسوف الإيطالي أمبيرتو إيكو وإسهاماته في الحقل السيميولوجي والإعلامي، على ضوء مجموعة من النظريات والمدارس الفكرية الناشطة في هذا الجانب. فبعد أيام من وفاة الفيلسوف الإيطالي، تنقلت “الخبر” إلى جامعة باتنة 1 واقتربت من الطيب بودربالة أحد الدكاترة الذين نالوا شرف الالتقاء والاحتكاك بالقامة العلمية الإيطالية والعالمية في سماء الملتقيات العلمية والساحة المعرفية، فضلا عن الميول والاهتمامات للدكتور بالجانب السيميولوجي والإعلامي معا، خاصة أنه اشتغل كأستاذ في مقياس السيميولوجيا بقسم الإعلام والاتصال بجامعة باتنة، حيث يقدم في هذا الحوار قراءة لفكر أمبيرتو وعلاقته بالإعلام.بداية، دكتور، كيف كان اللقاء الأول الذي جمعك بالفيلسوف الراحل أمبيرتو إيكو؟ التقيت أمبيرتو إيكو في ملتقى دولي نظمه المركز الثقافي الإيطالي بباريس سنة 1982 بإشراف من مؤسس المدرسة السيميوطيقية بباريس، وهو غريماس، وقد حضره كبار المختصين في السيميوطيقا ذات الأبعاد العالمية من مختلف أنحاء العالم، وفي عدة مجالات علمية ذات صلة بالسيميوطيقا كالفلسفة، السينما، النقد والفن المعماري، ومن أبرز المختصين آنذاك نجد إيكو الذي قدّم إضافة نوعية للسيميوطيقا.فيما تتمثل هذه الإضافة؟ اهتم إيكو بالدرجة الأولى بفتح السيميوطيقا على مجموعة من التخصصات، كما اهتم بسميوطيقا الثقافة باعتباره أحد مؤسسيها إلى جانب تارتو بروسيا، فقد جمع بين سيميوطيقا الثقافة وسيميوطيقا التأويل، حيث حاول أن يجمع شتات المدارس المختصة في التأويل ويصوغها داخل توجه جديد يجمع بين الإعلام، الفلسفة، الثقافة والسيميوطيقا وخاصة المدارس الأنجلوساكسونية التي يتزعمها بيرس. وأهم ما كتبه إيكو في مجال السيميوطيقا هو كتابه المشهور “البنية الغائبة” وكتاب “الأثر المفتوح”. وفي هذا الملتقى اعترف كبار السيميوطيقا بالأثر العظيم لأمبيرتو إيكو على السيميوطيقا وله كتاب في مجال ربط السيميوطيقا بالنظريات التأويلية من خلال كتابه “حدود التأويل”، فقد حاول الجمع بين الإعلام، الرواية، المناهج النقدية الحديثة والسرديات، كما تعد كتاباته خروجا من مأزق البنيوية، ويكون بذلك قد جمع بطريقة عامة بين التيار الوصفي التأويلي والتيار الموسوعي الذي يفتح النص على كل القراءات وكل الاحتمالات وعلى ما يسمى الدلالة المطلقة.العلاقة بين السيميوطيقا وإيكو تقودنا إلى الحديث عن علاقة الفيلسوف بالسيميولوجيا أيضا؟ علاقة إيكو بالمدرسة السيميوطيقية الأمريكية والسيميولوجية الفرنسية تمخضت بتأسيسه مدرسة ثالثة تتناول ربط ذات المدرستين من جهة بالثقافة والتأويل من جهة ثانية، أو ما يعرف بما بعد الحداثة وما بعد البنيوية، وربما استفاد من هذا الزخم والعمق والوعي المعرفي الكبير الذي وفرته النصوص القديمة لاسيما أطروحته للدكتوراه حول التوماس الإكويني، مستغلا إياها في تأويل النصوص الحديثة العصرية.هل يُفهم من هذا الكلام أن إيكو تمرّد ابستمولوجيا على المعارف السابقة ليؤسس لمعارف سيميولوجية جديدة؟ يمكن أن نقول إن إيكو حقّق القطيعة الابستمولوجية، مع العلم أن هذه القطيعة لا تتم إلا بعد حدوث تراكم معرفي حققه إيكو نتيجة الزخم المعرفي المسيحي والتيارات النقدية السيميولوجية الحديثة ومعارف المدرسة الفرنسية الأنجلوساكسونية والروسية، فقد تجاوز هذه التيارات والتراكم ليؤسس لانفتاح السيميولوجيا على الثقافة وعلى وسائل الإعلام وعلى الحضارة وعلى الحداثة بصفة عامة.فيما تتمثل الأسس التي أرساها إيكو والتي جعلته يلقب بمؤسس السيميولوجيا الثقافية؟ هناك مدارس عديدة للسيميولوجيا كمدرسة تارتو ولوتمان في روسيا خاصة فيما يتعلق بالثقافة واللاثقافة والثقافات المضادة والثقافات الجماهيرية وكذا الأبعاد الإيديولوجية لهذه المدرسة التي تشبعت بالشكلانية الروسية والماركسية والإنجازات المحققة في أوروبا الشرقية، كلها عوامل التقت بسيميولوجيا الثقافة. إيكو الذي حاول أن يجمل بين كل أدوات التعبير المعروفة بداية بالتعبير الإعلامي السينمائي التلفزيوني الإشهاري والروائي، لأن إيكو دخل سيميولوجيا الثقافة عن طريق وسائل الإعلام في مجال الثقافة الإعلامية ليحدث ثورة علمية في هذا المجال.نعرج الآن على إسهامات هذا الفيلسوف الإيطالي في الجانب الإعلامي؟ نعم، اهتم أمبيرتو إيكو بالجانب الإعلامي بالكتابات الإعلامية خصوصا كتابه “الأثر المفتوح”، حيث رجع من خلاله إلى كبار مؤسسي النظريات الإعلامية وخاصة النظرية السيبرنطيقية، ونظرية مارشال ماكلوهان عن دور التكنولوجيا في الرسالة الإعلامية، لأن مارشال ماكلوهان بيّن أن الوسيط الإعلامي هو الحاسم في مجال الرسالة الإعلامية، ورجع كذلك إلى دور الثقافة الجماهيرية واستعان بهذه التقاليد وهذه الإنجازات التي تحققت في السينما الإيطالية، لأن السينما الإيطالية مدرسة فرضت نفسها للتأسيس حتى للسينما العالمية، وقد استغلها ليؤسس لهذه الرؤى وهذه التصورات وهذه النظريات في مجال الإعلام والفنون والتعبيرات.ماذا عن علاقة إيكو بالسيبرنطيقا باعتبارها مدرسة نظرية كبرى في علوم الإعلام والاتصال؟ تعود إلى دور هؤلاء المؤسسين في أدبيات التنظير الإعلامي، الذين حاولوا تبيان تأثير وسائل الإعلام على الجماهير، وكيف حاولت البرامج الإعلامية أن تبرمج الأذواق والسلوكات والتصورات والعقليات وكيف كانت هذه الوسائل الإعلامية تشكلّ المرتكز في الإشهار، لأن هذه المؤسسات تقوم على الإشهار وهذا الأخير يقوم على البرمجة والتأثير على الجمهور من أجل حثه على استهلاك مختلف السلع الإيديولوجية والقيمية والحضارية والثقافية.بصيغة سيبرنطيقية، هل أصبح عمل وسائل الإعلام والمجتمع شبيها بعمل الآلة حسب إيكو؟ فعلا، النظام الإعلامي الثقافي ووسائل الإعلام واعية بهذه الآفاق المعقدة المتشعبة والصعبة، فهي في إطار ما يعرف بنظرية الأنساق تبرمج بعض العناصر وبعض المعطيات وتدخلها في نظام شبكي معقد، وهي لا تتحكم في كل المعطيات كمدخلات  (input) ولكنها تسعى في النهاية إلى برمجة والوصول إلى نهاية في شكل مخرجات (output) وهنا نلمس إرادة معرفية للتحكم في الإنسان، كون هذا الأخير متمردا على النسق والبرمجة.ما هي أبرز نقطة نظرية ركز عليها إيكو في مجال السيبرنطيقا؟ أسس إيكو هذه النقاط على المعطيات والمعلومات المتوفرة والموجودة وعلى دور التقنية، لاسيما مع ازدهار السينما الإيطالية خلال الخمسينيات والستينيات وهي نفس فترة ظهور السيبرنطيقا، فضلا عن ظهور الواقعية الجديدة، إضافة إلى ذلك الانتماء النقدي له وتحديدا مدرسة فرانكفورت، فهي بذلك محاولة لتوظيف هذا الانتماء الإيديولوجي والمعرفي في الفكر والفلسفة والإعلام من أجل تبيان وتعرية دور وسائل الإعلام.كيف اعتمد إيكو على مدرسة فرانكفورت من أجل نقد مدرسة أخرى هي السيبرنطيقية؟ انتقد السيبرنطيقا باعتبارها تكنولوجيا، لكنه استثمر ووظّف هذه الإمكانيات والقدرات التي توفرها السيبرنطيقا للثورة على هذا النظام الإيديولوجي الذي يسعى للهيمنة على العالم عن طريق الإعلام، عن طريق الثقافة الجماهيرية وعن طريق الإشهار.هل يمكن القول إن إيكو أسّس لسيميولوجيا جديدة وإعلام جديد؟ نستطيع القول إن إيكو كان يسعى لتأسيس إعلام جديد وسيميولوجيا جديدة، ولتأسيس ثقافة ومنطلقات جديدة لتصور الحياة والمستقبل والحضارة واستشراف نزعة إنسانية جديدة. كان يدعو إلى عولمة جديدة يغلب عليها الطابع الإنساني، كان يدعو إلى حوار الحضارات، حوار الثقافات وحوار العلوم لأنه يملك فكرا نقديا ضد العولمة أسماه العولمة الإنسانية التي تقوم على فهم الآخر وتوجيه العلم وجهة إنسانية، وكذا إعادة الاعتبار للغات والثقافات المهددة بالانقراض من طرف العولمة.السيميولوجيا والسيميوطيقا؟ تعتبر السيميولوجيا والسيميوطيقا من أبرز المدارس الفكرية التي اهتمت بدراسة ومحاولة فهم معاني الرموز والدلالات التي تحملها، خصوصا في مجال اللسانيات، غير أن نقاط الاختلاف بينهما تتمثل في كون السيميولوجيا فرنسية المنشأ من طرف الباحث الفرنسي دو سوسير، حيث تفسر دلالات المعاني والرموز بناء على قاعدة نظرية تسمى ثنائية الدال والمدلول، أما السيميوطيقا فهي أمريكية المنشأ أنجلوساكسونية التفكير الفلسفي، أسسها الباحث الأمريكي بيرس، ويقوم تفكير هذه المدرسة على تحليل الموز بناء على الثلاثيات التي يعبر عنها في المدرسة ذاتها بالمؤول الماثول والموضوع.النقدية والسيبرنطيقية؟ تعد النقدية والسيبرنطيقية من أكبر نظريات المستوى الكلي (macro level) أو ما يعبر عنه في أدبيات التنظير الإعلامي بـ«البراديغمات الكبرى”، حيث أسس النقدية مجموعة من الباحثين الألمان كهربرت شلير وماركيوز، الذين حاولوا أن يركزوا من خلال هذه المدرسة على التأثير السلبي الذي تنشره وسائل الإعلام في المجتمع ونقد هذا الدور بشدة، أما السيبرنطيقا فتعتبر أمريكية المنشأ من خلال مؤسسها روبيرت وينر وتلميذه إيلود كلود شانون وقد أجريا مقاربة نظرية بين عمل الآلة وعمل وسائل الإعلام في المجتمع عن طريق التعامل معه وفق نموذج العلبة السوداء القائم على نظام المدخلات والمخرجات، فضلا عن تركيزها على التحكم والتوجيه داخل المجتمع من خلال وسائل الإعلام.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات