+ -

التقت “الخبر” الدكتور هشام قريسة، وهو من مفكري الجمهورية التونسية ورئيس جامعة الزيتونة، على هامش ندوة فكرية انعقدت قبل أسبوع في كلية العلوم الإنسانية بجامعة تلمسان بدعوة من قسم العلوم الإسلامية، تناولت دور القيم الأخلاقية الإسلامية في تحقيق التوازن النفسي والاجتماعي. الدكتور هشام قريسة تحدّث عن أزمة الفكر وحقيقة الربيع العربي والمد الشيعي في الوطن العربي. أقول للجزائريين.. احذروا الخطر في الجوار في تقديركم، ما هي أسباب هذا التخبط الفكري الذي يعيشه المسلمون في هذا العصر بعدما كانوا سادة الحضارة الإنسانية لقرون عدّة؟ تراكمت الأسباب وتعددت، فبناء حضارة في أي مجتمع يتصل بعوامل عدة، اقتصادية واجتماعية وفكرية وسياسية، فقد تراكم الضعف في الأمة الإسلامية وأصابها الوهن، واجتمعت أسباب عديدة طال أمدها. ومن بين هذه الأسباب والأمراض الاحتلال والاستعمار الغربي بمختلف أنواعه.. ونحن ندفع اليوم ثمن تراكم قرون من الضعف أدخلتنا في صراعات هامشية سياسية وحزبية، بفعل أيضا دكتاتورية الأنظمة وتسلّطها، فتعطل مشروع النهضة الحقيقية. وهناك سبب آخر هو أن المثقفين في الأمة ليسوا على منهج واحد في التفكير والطرح، ويعتبر هذا عائقا في النهضة والثقافة، وكما أن أسباب المرض والوهن والتدني كثيرة، فالحلول يجب أن تكون متنوعة أيضا، بداية بتحقيق ثقافة حقيقية بإصلاح مناهج التعليم والتربية، وغرس الكثير من القيم في مجتمعاتنا بتثمين علاقة العمل والاقتصاد، وتنمية فكر الإنتاج بدل الاستهلاك، وببروز قيادات سياسية صادقة مع شعوبها، وخادمة لأوطانها.تُتهم المدارس والمعاهد الإسلامية بتخريج دعاة الغلوّ والتطرف، بعدما كانت هذه المؤسسات التربوية مقصدا لرواد حركات التحرر في الوطن العربي والإسلامي. ما تعليقكم؟ في فترة سابقة في زمن الاستعمار وبُعَيد الاستقلال، ضعفت المدارس الإسلامية الأصيلة، على غرار الزيتونة في تونس التي كان لها إشعاع وامتداد في الجزائر وفي غيرها، فضعف هذه المدارس في تونس ومصر والجزائر تسبّب في إفراغ الساحة وبروز رؤى متطرفة، بعيدا عن العلم الأصلي والشرعي، ليقع في فخ التطرف شباب أساؤوا للصورة الصحيحة للإسلام، فحاول حاقدون في الغرب وحتى بلاد العرب والمسلمين الإساءة للمرجعيات الإسلامية، أشخاصا ومؤسسات.كيف تفسرون رفض الغرب والحضارة الغربية لكل ما هو مرتبط بالدين الإسلامي، حتى في قيمه الوسطية والمعتدلة التي يسعى كثير من الناس لإيصالها للغرب؟هذا لم يكن مطروحا في الغرب إلا بعد ظهور جماعات إسلامية متشددة، متطرفة، عنيفة، استغلها الغرب وروّج لها إعلاميا لتخويف العالم من الإسلام، وهؤلاء يغتنمون كل فرصة للانقضاض على المبادئ الإسلامية التي لا يريدون انتشارها وهيمنتها، ويعملون كل ما في وسعهم من أجل ذلك، وخاصّة اليهود الذين يفعلون ذلك حفاظا على مصالحهم ومصالح دويلتهم المغتصبة لأرض المسلمين.تحدّثت وسائل إعلام عالمية عن تصدر الشباب التونسي قوائم المجنّدين في ما يعرف بتنظيم “داعش”. ما صحّة تلك الأرقام؟ صحيح، وكل مرّة أسأل في هذا الموضوع أقول إنّه أمر إيجابي.. تقول لي: كيف؟، فأجيب أن المجتمع التونسي تخلّص من 3 آلاف داعشي، وهو عدد من التحقوا بتنظيم الدولة الإرهابي المتطرف، وقد أصبحوا غير مقبولين في تونس، ولا يستطيعون ممارسة عملهم الإرهابي بداخلها بسبب رفض المجتمع التونسي بكل أطيافه لمثل هذا السلوك المتطرف الذي أضرّ بصورة الإسلام، وأضرّ بسلامة الأوطان العربية وباستقرارها، ورسالتي إلى الجزائريين أن يحافظوا على بلدهم، وهذا ما يجعلني كلما أزور الجزائر أدعو إلى المساهمة في هذه الروح وهذه الرسالة النبيلة، فالطعنة في بلداننا بالمغرب العربي تأتي من الجوار، فاحذروا يا جزائريون. وإصلاح الوضع يتطلب عشرات السنين من الجهود لبناء ما دمّر في سوريا وليبيا واليمن، وفي غيرها من البلاد الإسلامية، خاصة أن هذه الدول كانت تقيم اقتصادها على النفط، وانظر الآن إلى واقع الحال، بماذا سنبدأ؟ من أين تكون الانطلاقة؟ ماذا نصلح؟ المستشفيات، الجامعات، السكن، السدود..؟ هي الكارثة بكل المقاييس، كارثة لحقت بهذه الدول مقابل خمول عند الشعوب العربية.راجت تصريحات منسوبة للعلامة الشيخ يوسف القرضاوي بأن علماء السنة ضيّعوا وقتا طويلا في محاولة الحوار والتقارب مع الشيعة، بسبب ما يجري في بعض الدول العربية مثل سوريا والعراق واليمن، زيادة على تمدد التشيع ليطال دول المغرب العربي مثل تونس والجزائر. ما قولكم؟ أنا شخصيا لا أعتبر الحديث إلى منتسبي التيار الشيعي تضييع وقت، فمحاورتنا للشيعة هي رسالة لتبليغ الرؤية الإسلامية الصحيحة، ومخاطبتهم ومحاورتهم سبيل لإقناع أهل السنة أولا، وإقامة الحجة على الشيعة ثانيا، إلاّ أنّ دخول أطراف في النقاش من خلال تقدم العامّة وتخلف العلماء، جعل العامة من الطرفين يحملون السلاح، وقدّم الشيعة أنفسهم بأنهم “أمة مضطهدة”، زيادة على الأنظمة الديكتاتورية التي كانت تحكم في المشرق العربي وتقمعهم، ما تسبب في تعميق الخلاف، وحدث الغزو الأمريكي ومعه 32 دولة متحالفة دليل أن صراع الأنظمة مع الشعوب عمّق الخلاف، مع غياب مجتمع مدني واعٍ بالأزمة، وهنا لا بد من تكاتف الجميع للحفاظ على مرجعتينا السنية وتفادي الاختراقات الفكرية.وماذا عن واقع جامعة الزيتونة في تونس قبل الثورة وبعدها؟ في السابق حدث تقلّص وجمود في فترة زين العابدين بن علي، ما جعل الكثير من الناس وطلبة العلم يهجرون نحو الخليج والسعودية على وجه الخصوص، وإلى أفغانستان، ليتابعوا طلب العلم هناك عند وعّاظ وأئمة، وليس عند علماء، وهناك فارق كبير، فالعالم يقدّر المصلحة ويتحدث عن العلم بعيدا عن التشدد في الخطاب وفي السلوك أيضا، بينما نجد بعض ممارسي الخطاب المسجدي غير منضبطين، ما ينتج معرفة مضطربة لا تنتج سلوكا قويما. الآن بعد 5 سنوات من الثورة التونسية، بدأت الأمور تعود إلى مجراها الصحيح، وأغلب المساجد يؤمها خريجو الزيتونة، وسنعيد للزيتونة مكانتها لتصدر الدروس بتكوين شرعي علمي متين.تونس كانت مهدا لثورات الربيع العربي المنقلَب عليه والمتَّهم بالخراب والخريف العربي من أنصار الأنظمة العميقة. كيف تصفون ذلك الحراك؟ وكيف تتوقعون مستقبله في تونس وغيرها؟ قال كارل ماركس “كل حدث تاريخي له مشهدان: الأول يحدث في الواقع وهو أصلي، والثاني مُصطنع وقد يكون مأساويا”،  في تونس كانت الثورة حقيقية صنعها الشعب، وليكن في علمكم أن الأمن الرئاسي هو الذي دفع زين العابدين بن علي للخروج تفاديا للمواجهة مع الشعب، والأمن هو من اعتقل أصهار الرئيس وأقاربه، فثورة تونس حقيقية وغير مصطنعة، عكس ما وقع في سوريا التي لم تكن مهيّأة والكل يعرف من هو بشار الأسد، هو ووالده حافظ الأسد الذي استعمل أسلحة فتاكة لقهر الشعب السوري.. في تونس قامت الثورة ضد القهر الاجتماعي وتمت دون خسائر.. الجنرال قائد الأركان رفض استلام الحكم وقال إنه يحمي الثورة ولا طموح له في السياسة، ثم جاء التوافق بين مكونات الأمة وحدث ما حدث، ما يدل على وجود وعي في المجتمع التونسي، والوعي هو الذي يحافظ على السلم والتماسك واللّحمة للحفاظ على البلد، وأتوقع أن إصلاح الوضع في هذا البلدان قد يطول كثيرا إذا لم يسرع الخيرون والواعون إلى اقتراح وتنبي حلول تعيد اللحمة والاستقرار إلى المجتمعات.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات