+ -

عن أَبِي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: “إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُم ثَلاَثًا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاَثًا، فَيَرْضَى لَكُم: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا، وَلاَ تَفَرَّقُوا. وَيَكْرَهُ لَكُم: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ” رواه مالك والشيخان. روى البخاري ومسلم عن المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قال: قال النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: “إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَمَنَعَ وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ”. وكثير من العلماء على أنّ “كره” و”حرم” في هذا الحديث ليس بينهما فرق؛ لأنّ الكراهة في لسان الشارع معناها التحريم، ولكن هذا -والله أعلم- من باب التّنويع في التّعبير فقط، وهو من مقامات البلاغة.ومعنى “قيل وقال”: الخوض في أخبار الناس وأحاديثهم وحكاية أقوالهم وأخبارهم التي لا فائدة فيها والبحث عنها وما لا يعنى من أحوالهم؛ قيل كذا، وقال فلان كذا، فقيل كذا، ممّا لا يجر نفعًا ولا يأتي بخير، ولا يكسب فيه حسنة، ولا يسلم القائل فيه من سيَّئة. إنّما هو ولوع وشغف ولَغَطٌ وحَشْوٌ وغيبةٌ، وهو من التجسّس المنهي عنه. وعليه فلا يجوز لأحد حكاية شيء لا يعلم صحّته، أو نقل خبر لم يتثبت منه. وعن الإمام مالك رحمه الله أنّه قال: هو الإكثار من الكلام والإرجاف نحو قول القائل: أُعطِي فلان كذا ومنع من كذا، والخوض فيما لا يعني، كقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ..} التّوبة:65. والمراد هو النّهي عن كثرة الكلام والثرثرة الفارغة إذ الغالب عدم السلامة من المكثر لكلامه فيما لا يعنيه أو لأنّه يخالطه الكذب عادة، وهو نهيٌ عن فضول ما يتحدّث به المتجالسون، ونهيٌ عن القول بما لا يصحّ ولا يعلم حقيقته فيكون نظير حديث: “بئس مطية الرجل زعموا” رواه أحمد. ونهيٌ عن كثرة الكلام مبتدئًا ومجيبًا. وهذا النّهي عن “قيل وقال” يتضمّن لعمومه حرمة النميمة والغيبة؛ فإنّ تبليغ الكلام من أقبح الخصال، والإصغاء إليها أقبح وأفحش.وكثرة القيل والقال من دواعي الكذب، وعدم التثبّت، واعتقاد غير الحقّ، ومن أسباب وقوع الفتن، وتنافر القلوب، ومن الاشتغال بالأمور الضّارة عن الأمور النافعة. وقلَّ أن يَسلَم أحد من شيء من ذلك، إذا كانت رغبته في القيل والقال.ثمّ إنّ تتبع أخبار النّاس وأحوالهم للتحدّث بها وإشاعتها كثيرًا ما يكون فيها ما يغضب المقول فيه، من أمور كان يود إخفاءها، وأسرار لا يحب إذاعتها، فتنشأ العداوة وتنمو الضغينة ويعمّ الفساد والأذى. أضف إلى ذلك ما يوصم به من كانت هذه صفته من المذلّة والصغار، وما يلقاه من النّاس من الإهانة والاحتقار.ولكن هناك مَن لا شُغل له إلاّ نقل الكلام الّذي لا فائدة فيه، والثرثرة بالتُرَّهات والمواضيع السّخيفة الّتي لا نفع منها، حتّى يصير ليس له لذّة إلاّ الكلام في النّاس أو نقل كلامهم، قالوا: كذا وقيل: كذا، وهذا بلاء وإثمٌ كبير، وخاصة إذا كان هذا في أعراض أهل الفضل من أهل العلم وغيرهم فإنّه يكون أقبح وأشدّ كراهة عند الله عزّ وجلّ. والمؤمن الأصل فيه أَلاّ يقول إلاّ خيرًا وحسنًا كما قال الله عزّ وجلّ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}. وقال رسوله الكريم عليه الصّلاة والسّلام: “مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليَقُل خيرًا أو ليصمت” رواه البخاري ومسلم. وهناك أيضًا مَن يتلذّذ بالأخبار الّتي فيها فضيحة لأحد ما، أو فيها تنقّص لشخص ما، أو فيها عيبٌ لإنسان ما، وخاصة إذا كان من المشهورين، وبالأخصّ إذا كان من الدعاة والعلماء! والعجيب أنّ النّاس يُصدّقون مثل هذه الأخبار بسرعة غريبة وكأنّهم كانوا يتشوّقون إليها، وحتّى إن تبث خطؤها فيما بعد تراهم متشبّثين بها ويصرّون عليها!وهذا البلاء القديم وجد له في زمننا مرتعًا خصبًا وميدانًا فسيحًا في شبكات التّواصل الاجتماعي، وتلبّس به كثير من النّاس وهم لا يشعرون، حيث يتشاركون وينشرون أخبارًا تَرُوج في هذه الشّبكات، و”فيديوهات” وفضائح، وفتاوى مخطئة وضالة، وأحاديث موضوعة مكذوبة على الصّادق المصدوق عليه السّلام دون تأكّد من صحّتها ولا توثّق من مصدرها ولا تثبت منها، ويحسبونه هيّنًا وهو عند الله عظيم، وربّما إذا نبّهتهم لذلك يقولون: نحن نرفّه عن أنفسنا ونتسلّى، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ..}. ونهي النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن “قيل وقال” نهيٌ عام للنّاس جميعًا، وشامل للحالات جميعها، وهو نهيٌ عن “قيل وقال” في الحياة الحقيقية ونهي عنه في الحيوات الافتراضية!إمام وأستاذ الشريعة بالمدرسةالعليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات