مالـك بن نبي...الأخلاق الإسلامية

+ -

 جاء الإسلام لينتقل بالبشر خطوات فسيحات إلى حياة مشرقة بالفضائل والآداب، واعتبر المراحل المؤدية إلى هذا الهدف النبيل من صميم رسالته، كما أنه عدّ الإخلال بهذه الوسائل خروجًا عليه وابتعادًا عنه.فليست الأخلاق من مواد الترف الّتي يمكن الاستغناء عنها، بل هي أصول الحياة الّتي يرتضيها الدّين ويحترم ذويها، وقد أحصى الإسلام بعدئذ الفضائل وحثّ أتباعه على التمسك بها واحدة واحدة، ولو جمعنا أقوال صاحب الرسالة في التحلّي بالأخلاق الزّاكية لخرجنا بسفر لا يعرف مثله لعظيم من أئمة الإصلاح.عن أسامة بن شريك قال: كنّا جلوسًا عند النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كأنّما على رؤوسنا الطّير، ما يتكلّم منّا متكلّم، إذ جاءه أناس فقالوا: مَن أحبّ عباد الله إلى الله تعالى؟ قال: “أحسنهم خُلقًا”، وسئل أيّ المؤمنين أكمل إيمانًا؟ قال: “أحسنهم خُلقًا”، وعن عبد الله بن عمرو قال: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: “ألاَ أخبركم بأحبّكم إليّ وأقربكم منّي مجلسًا يوم القيامة”؟ فأعادها مرّتين أو ثلاثًا، قالوا: نعم يا رسول الله، قال: “أحسنكم خُلقًا”. وقال: “ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خُلق حسن، إنّ الله يكره الفاحش البذئ، وإنّ صاحب حُسن الخُلق ليَبلغ به درجة صاحب الصّوم والصّلاة”.هذا التّصريح لو صدر عن فيلسوف يشتغل بشؤون الإصلاح الخُلقي فحسب لمّا كان مستغربًا منه، إنّما وجه العجب أن يصدر عن مؤسس دين كبير والأديان عادة ترتكز في حقيقتها الأولى على التعبُّد المحض.ونبي الإسلام دعا إلى عبادات شتى، وأقام دولة ارتكزت على جهاز طويل ضدّ أعداء كثيرين، فإذا كان مع سعة دينه وتشعّب نواحي العمل أمام أتباعه يخبرهم بأن أرجح ما في موازينهم يوم الحساب هو الخُلق الحسن، فإنّ دلالة ذلك على منزلة الخُلق في الإسلام لا تخفى.والحقّ أنّ الدّين إن كان خُلقًا حسنًا بين إنسان وإنسان فهو في طبيعته السّماوية صلة حسنة بين الإنسان وربّه، وكلا الأمرين يرجع إلى عقيدة واحدة. إنّ هناك أديانًا تبشّر بأنّ اعتناق عقيدة ما يمحو الذّنوب وأنّ أداء طاعة معيّنة يمسح الخطايا، لكن الإسلام لا يقول هذا إلاّ أن تكون العقيدة المعتنقة محورًا لعمل الخير وأداء الواجب، وأن تكون الطّاعة المقترحة غسلاً من السّوء وإعدادًا للكمال المنشود، أي أنّه لا يمحق السيّئات إلاّ الحسنات الّتي يضطلع بها الإنسان ويرقى صعدًا بها إلى مستوى أفضل، وقد حرص النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على توكيد هذه المبادئ العادلة حتّى تتبيّنها أمّته جيّدًا فلا تهون لديها قيمة الخلق وترتفع قيمة الطقوس.عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “إنّ العبد ليبلغ بحُسن خُلقه عظيم درجات الآخرة وأشرف المنازل وإنّه لضعيف العبادة، وإنّه ليبلغ بسوء خُلقه أسفل درجة في جهنّم”.وحُسن الخُلق لا يُؤسّس في المجتمع بالتعاليم المرسلة أو الأوامر والنّواهي المجرّدة، إذ لا يكفي في طبع النّفوس على الفضائل أن يقول المعلّم لغيره: افعل كذا أو لا تفعل كذا، فالتأديب المثمر يحتاج تربية طويلة، ويتطلّب تعهّدًا مستمرًا، ولن تصلح تربية إلاّ إذا اعتمدت على الأسوة الحسنة، فالرجل السيّئ لا يترك في نفوس من حوله أثرًا طيّبًا، وإنّما يتوقّع الأثر الطيّب ممّن تمتد العيون إلى شخصه، فيروعها أدبه ويسبيها نبله، وتقتبس بالإعجاب المحض من خلاله وتمشي بالمحبّة الخالصة في آثاره.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات