التوجس العقدي، عامل سيكولوجي لعب دورا كبيرا في دفع الإسلاميين ومنذ نشوء الحركات الإسلامية لهدر العلم لصالح الإيديولوجيا، ومن ثم تكريس نوع من الخطاب القائم على العموميات البلاغية أكثر منه على المعرفة، الأمر الذي جعل مختلف التنظيمات الإسلامية تتجنب التعامل مع التخصصات المختلفة من العلوم الإنسانية، بل شنت عليها باسم العلمانية والإلحاد والتهويد حربا شعواء، فخسرت بذلك خسارة كبيرة عندما دخلت عالم الدولة الذي لم تستوعبه ولم تفك شيفرته المعرفية قبل الواقعية التي تحولت عندها إلى انتهازية. إنه العمى المعرفي الذي أنتج أحكاما خاطئة على كثير من المفاهيم، مثل مفهوم العلمانية والمفهوم الحديث للدولة والدولة المدنية والعقد الاجتماعي ...الخ. الأمر الذي أدى إلى مغالطات ومخاطر كبرى مثل التكفير والإرهاب الذي يعتبر نتيجة حتمية لتجاهل العلوم الإنسانية وتهميشها من طرف الإسلاميين من ناحية، وبسبب غياب رؤية استراتيجية لأنظمة التعليم تستوعب أهمية إدراج العلوم الإنسانية في الكليات العلمية من ناحية وكليات الشريعة من ناحية ثانية، حيث تؤكد الدراسات أن غالبية المجنّدين من المتعلمين في صفوف الجهاديين ينتمون إلى كليات علمية أو شرعية، وأن هذه القدرة على التجنيد في صفوف هؤلاء إنما مردها إلى جهل بالظواهر الاجتماعية والسياسية وعجز عن تفكيكها وتحليلها، بسبب القصور المعرفي الذي يجعل من خريجي الكليات العلمية والشرعية صيدا سهلا للجهاديين الذين يعتبرون هم أنفسهم في هذا السياق ضحايا افتقادهم منهج نظر في الظواهر الاجتماعية مصدره أنظمة التعليم ووعي الحركات، وتؤكده تلك الفجوة القائمة بين ما يسمى بعلماء الدين والأكاديميين من كبار المتخصصين في العلوم الإنسانية، فعلى مستوى الواقع، لاحظ لو كان عالم دين يلقي محاضرة عامة حول موضوع معين، كم أستاذ جامعي متخصص في العلوم الإنسانية يحضر المحاضرة ويهتم لها، ولك أيضا أن تدرس نوعية الجمهور الحاضر في القاعة. ولقد لعب نظام التعليم دورا كبيرا في ابتعاد العقل الإسلامي المؤدلج عن العلوم الإنسانية، لذلك نجد خريجو كليات الشريعة والكليات العلمية الذين تزخر بهم صفوف الحركات الإسلامية لا يملكون من الأدوات المعرفية ما يمكنهم من استيعاب التعقيد والتركيب الذي تتميز به مختلف الظواهر الإنسانية، في الوقت الذي هم مخوّلون فيه من منطلق مواقعهم كأئمة أو مصلحين أو متصدين للفتوى أن يستوعبوها، فانظر مثلا في الفضائيات عندما يجيب أحد الدعاة على أسئلة المشاهدين على الهواء، وهو يبسط القضية المطروحة لدرجة تدعو إلى الدهشة والاستغراب، وكيف يقدّم جوابا مباشرا يتضمن مجموعة من المغالطات، الأمر الذي يدعو إلى التساؤل ماذا كان سيكون موقف عالم اجتماع مثلا أو عالم نفس من ذلك الرد، ولا أحد يراقب تفاعلات الجمهور مع أجوبة شيخ الفضائية ويتابع مآلاتها، وأذكر في هذا السياق أحد الشيوخ على إحدى الفضائيات وهو ينصح السائل فيما يخص قضية زواج بقوله “قلت لك، روح شوف طير مغمض من جبال جيجل”، وكأن المطلوب من الرجل حتى يعيش سعيدا امرأة جاهلة ومغفلة” وما مصدر هذه النظرة إلى المرأة؟ وهل يوجد هذا النوع من النساء في عالمنا المفتوح؟ أما من حيث المفاهيم، فإن الإسلاميين يحاربون المفهوم برهة من الزمن، ثم يأتي الواقع ليفرض عليهم التعامل معه، فيسعون وبشيء من التذاكي المسطح إلى تعميد المفهوم عبر مقارنة مغفلة مع مصطلح قرآني والقبول به، مثلما فعلوا مع الشورى والديمقراطية والاشتراكية والعدالة الاجتماعية والدولة المدنية والدينية ...الخ...أما اليوم، فإن مفهوم العلمانية الذي لا زال يمثل الهاجس الأكبر لدى الإسلاميين في مقابل الإسلام نفسه، حيث يسمونها بالكفر أحيانا ويعرفونها وفقا للمزاج الذي تخلّفه العصبية والانطباع بإنكار الوحي وتحكيم العقل ونوع من إخضاع الدين للدولة، وكل ذلك يعود إلى الخلط بين العلمانية والخبرة الأوروبية الذي يؤدي إلى النظر إلى العلمانية في سياقها الأوروبي. لذلك حق لنا في أي جدل حول مفهوم العلمانية أن نسأل محدثنا عن أي علمانية تتحدث؟ ومن ثم يمكن القول أن الدور الذي تلعبه العلوم الإنسانية هو تحرير منهج البحث النظري في مختلف المفاهيم والقضايا، ومن ثم على الإسلاميين وقبل أن يفكروا في السلطة والحكم أن يسترجعوا فريضة وشرعية التفكير التي سلبت منهم بسبب العصبية والانطباعية والكسل الفكري. وتتمثل أهمية التحرير المنهجي في دراسة الظواهر في عدم الخلط بين المفهوم أو المصطلح والخبرة التي توظفه والسعي إلى البحث في المفهوم وفقا لخلفياتها المعرفية، فالعلمانية مثلا كما تؤكده خلفياتها الابستمولوجية وليس كما جرى توظيفها، تمثّل نموذجا لإدارة العلاقة بين السياسي والديني، الأمر الذي يجعل من العلمانية مرادفا للسياسة بمعنى الإدارة وليس الكفر. وفي هذا السياق، يمكن القول بأن الكليات العسكرية وحدها في الجزائر استوعبت أهمية إدراج العلوم الإنسانية في الكليات العلمية لديها، وهي خطوة استراتيجية غاية في الأهمية من المفترض أن تعمّم على الكليات المدنية الشرعية والعلمية. أما الإسلاميون، فإن العلم وحده سيؤكد لهم بأن تلك الثنائيات التي عطّلت عملية التفكير في غالبيتها مفخخة بالعصبية والأدلجة.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات