+ -

مثل عظيم جدًّا ضربه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لفساد دين المرء بحرصه على المال والشّرف في الدّنيا، وأنّ فساد دينه بذلك كفساد غنم بذئبين ضاريين، باتا فيها وقد غاب عنها رعاتها ليلاً، فهما يأكلان الغنم ويفترسانها، فلا ينجو الغنم من إفساد الذئبين. أخرج الإمام الترمذي في جامعه من حديث كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال “ما ذئبان جائعان أُرسلاَ في غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال والشّرف لدينه”. فهذا المثل العظيم يتضمّن غاية التّحذير من شرّ الحرص على المال والشّرف في الدّنيا. والحرص على المال نوعان، أحدهما: شدّة محبّة المال مع شدّة طلبه من وجوهه المباحة والمبالغة في طلبه، والجدّ في تحصيله واكتسابه من وجوهه مع الجهد والمشقّة، فالحريص يضيع زمانه الشّريف، ويخاطر بنفسه في الأسفار وركوب الأخطار لجمع مال ينتفع به غيره، ويبقى حسابه عليه، فيجمع لمَن لا يحمده، ويقدّم على من لا يعذره، يقول الشّاعر:ومن ينفق الساعات في  جمع مالهمخافة فقر فالّذي فعل الفقرولا تحسبن الفقر فقرا من الغنىولكن فقْرُ الدِّين من أعظم الفقروأمّا النّوع الثاني من الحرص على المال، فهو أن يزيد على ما سبق ذكره في النّوع الأول حتّى يطلب المال من الوجوه المحرّمة، ويمنع الحقوق الواجبة، فهذا من الشحّ المذموم: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون}، وفي سنن أبي داود من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال “إيّاكم والشحّ، فإنّما هلك من كان قبلكم بالشحّ، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا”. يقول سادتنا العلماء: الشحّ هو الحرص الشّديد الّذي يحمل صاحبه على أن يأخذ الأشياء من غير حلّها، ويمنعها حقوقها، وحقيقته أن تتشوّف النّفس إلى ما حرّم الله، وألاّ يقنع الإنسان بما أحلّ الله له.وأمّا حرص المرء على الشّرف، فهو أشدّ هلاكًا من الحرص على المال، فإنّ طلب شرف الدّنيا والرِّفعة فيها، والرياسة على النّاس، والعلو في الأرض، أضرّ على العبد من طلب المال، وضرره أعظم، والزُّهد فيه أصعب، فإنّ المال يبذل في طلب الرياسة والشّرف، فطلب الشّرف بالولاية والسّلطان والمال خطير جدًّا، وهو في الغالب يمنع خير الآخرة وشرفها، وكرامتها، وعزها: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين}. وقَلَّ من حرص على رياسة الدّنيا بطلب الولايات أن يُوفَّق، بل يوكّل إلى نفسه كما قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لعبد الرحمن بن سمرة “يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإنّك إن أوتيتها عن مسألة وُكلت إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة أُعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فكفّر عن يمينك وأت الّذي هو خير”.والحرص على الشّرف بطلب الولايات يستلزم ضررًا عظيمًا يقع فيه من حصل الولاية من الظّلم والتكبّر، وغير ذلك من المفاسد، ومن هذا الباب أيضًا أن يحبّ ذو الشّرف والولاية أن يُحمَد على أفعاله ويُثنى عليه، ويطلب من النّاس ذلك، ويتسبّب في أذى من لا يجيبه إليه، وربّما أظهر أمرًا حسنًا في الظّاهر وأحبّ المدح عليه، وقصد به في الباطن شرًّا.وهناك نوع آخر من الحرص على الجاه، وهو طلب الشّرف والعلو على النّاس بالأمور الدّينية، كالعلم والعمل والزّهد، فهذا أفحش من الأوّل وأقبح وأشدّ فسادًا وخطرًا، فإنّ العلم والعمل والزّهد إنّما يُطلب بها ما عند الله من الدّرجات العلى والنّعيم المقيم والقرب منه والزّلفى لديه، قال الإمام الثوري: إنّما فُضِّل العلم لأنه يُتقى به الله، وإلاّ كان كسائر الأشياء.وطلب العلم للدّنيا على نوعين، أحدهما: أن يطلب به المال، فهذا من نوع الحرص على المال وطلبه بالأسباب المحرّمة، روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال “مَن تعلّم علمًا ممّا يُبتغى به وجه الله عزّ وجلّ، لا يتعلّمه إلاّ ليُصيب به عرضًا من الدّنيا لم يجد عرف الجنّة يوم القيامة، يعني ريحها”. والثاني: مَن يطلب بالعمل والعلم والزّهد الرئاسة على الخلق والتّعاظم عليهم، وأن ينقاد له الخلق ويخضعوا إليه ويصرفوا وجوههم إليه، وأن يُظهر للنّاس زيادة علمه على العلماء، أو ليعلو به عليهم ونحو ذلك، فهذا وعيده النّار لأنّ قصده التكبّر على الخلق، فإذا استعمل فيه آلة الآخرة كان أقبح وأفحش من أن يستعمل فيه آلات الدّنيا من المال والسلطان، روى الترمذي في سننه من حديث كعب بن مالك أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال “مَن طلب العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السّفهاء أو يصرف به وجوه النّاس إليه: أدخله الله النّار”.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات