التصفية الجسدية وخلفياتها عند الجهاديين

+ -

الجهاديون، لماذا يحلون خلافاتهم مع الآخر من خلال التصفية الجسدية؟ لماذا يفضلون قطع الرؤوس حاملة الأفكار المخالفة لاستئصال الخلاف، ونفي الذات المخالفة؟ لماذا يفضلون تغييب المخالف بتغييب جسده؟ أليست هذه هي الحالة الطبيعية التي شخصها كل من هوبس ولوك وروسو على تفاوت بينهما في مقدار الشر والخير الكامن في طبيعة الإنسان قبل أن يتحول إلى الحالة المدنية عبر العقد الاجتماعي؟ فالإنسان في حالته الطبيعية يتمتع بحق عام ومطلق، إنه حقه، حقه الطبيعي في ممارسة قدراته الطبيعية التي تغلب عليها غريزة حب البقاء، التي تنتهي بحرب الجميع ضد الجميع، على اعتبار أن الإنسان شرير بطبيعته عند هوبس، على عكس روسو الذي يرى أن الإنسان الطبيعي لم يكن طيبا ولا شريرا، المهم في هذا الموضوع أن عقدا اجتماعيا يجري الاتفاق عليه بالتنازل عن بعض الحقوق في سبيل العيش المشترك، هو وحده الذي من شأنه أن ينتقل بالإنسان من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية، ومن ثم إلى تأسيس الجمهورية التي تقوم على دولة القانون الذي تؤسسه الإرادة العامة، باعتبارها تمثل مجموعة الإرادات الخاصة للأفراد الذين تحولوا إلى مواطنين بحكم ذلك العقد.أما فولتير، فإنه يرى في “رسائل فلسفية” أن المتعصب هو من لا يضع مسافة بين كيانه ومعتقداته، حيث يعتقد المتعصب عندما توضع معتقداته موضع مساءلة، أنه مس في شخصه لذلك هو مستعد لاستعمال عنف هائج. والشاهد على ذلك محارق محاكم التفتيش، حيث كان المحقق الإسباني توماس توركميدا يقطع ألسنة المهرطقين قبل قذفهم لتلتهمهم ألسنة النيران، إنه التشخيص الذي يمكن إسقاطه على سيكولوجية الداعشي والجهادي عموما، في اندفاعه نحو التصفية الجسدية للمخالف الذي يحتاج لكتم صوته وتغييبه ونفيه، ومحو أي أثر لوجوده، ظنا منه بسبب تواجده ضمن الحالة الطبيعية البدائية أن الجسد حامل الفكرة، وأن الفكرة تزول بإلغاء الجسد وقطع الرأس حامل الفكرة.فما الذي يمكن أن يكرس ويثبت هذه المسافة بين الكيان والمعتقدات في علاج ظواهر مثل داعش وأخواتها؟ وما الذي يمكن أن ينقل داعش من حالتها الطبيعية هذه إلى حالة مدنية حسب اجتهادات الحزب الفلسفي في أوروبا؟لمزيد من البحث في هذه الظاهرة، نحن في أشد الحاجة لمقاربة ما أفرزته ظاهرة الجهاديين من مظاهر الكراهية والغضب والعدوانية، كما تجلت في شكلها الكلبي والعدواني والفاجر واللاأخلاقي. لقد كان روسو يعتبر أن الفضيلة أعلى من علم الفقهاء، لأن مبادئها منقوشة على كل القلوب، يقول ذلك وهو يتساءل: ألا يكفي أن يعود الإنسان إلى ذاته ويصغي إلى ضميره أثناء صمت شهواته؟ فما الذي يجعل الجهادي عاجزا عن الإصغاء لضميره؟ بل ما الذي يجعل شهواته تصمت حتى تعطي فرصة لصحوة الضمير؟بدءا بالمقاربة السيكولوجية التي تبحث في خلفية هذا الاستشعار لضرورة النفي الراديكالي الذي ينتهي بنسف المسلم بعد تكفيره وكذا أتباع الديانات الأخرى، فضلا عن بيع النساء في سوق النخاسة أو غزو أجسادهن، وغيرها من السلوكيات البدائية مع تغييب أي مساحة للحوار.إن هذا التبني لفكرة الحقيقة الواحدة يعود إلى متعة التحكم، وهي آلية نفسية متأصلة في أغوار النفس البشرية، ترفض الاعتراف بحق الآخر في أن يكون مختلفا، وتجبره على التماهي مع الأنا، وتتجسد هذه الآلية في ادعاء احتكار الحق وامتلاك القدرة على فرضه على من حوله، والتصدي لأي استشعار لضعف الذات من خلال شيطنة الآخر، وتتصلب هذه الآلية أمام أي اختراق معرفي، حيث تتحصّن بالإغلاق المعرفي لكي تحافظ على ذلك التماهي، وأكثر ما تتجلى متعة التحكم في الآخر في الممارسات التسلطية والعدوانية التي تتجسد أكثر ما تتجسد في مظاهر الذبح والتمثيل بالجثث.كما تتسم الشخصية التكفيرية بالتمركز حول الذات، وعدم القدرة على استيعاب التفاعلات العميقة التي تجري داخل الذات، الأمر الذي يسبب اضطرابا في العاطفة يؤدي لغياب أي مزاج أخلاقي، الأمر الذي يستلزم عدم الاكتراث لآلام الآخرين ومعاناتهم، وإلى انعدام الشعور بالخجل أو الندم على الأفعال، بل على العكس من ذلك يخلف ذلك التمركز حول الذات نوعا من الرغبة في رؤية الآخرين يتعذبون.والسؤال: هل هذه الحالة السيكولوجية مردها إلى التنشئة الاجتماعية أم إلى الانغلاق والقصور المعرفي أم إلى غياب ذلك العقد الاجتماعي الذي كرس بقاء الجهاديين عند مرحلة الحالة الطبيعية وحال دون انتقالهم إلى الحالة المدنية، بينما تمكن غيرهم من المسلمين من التكيف مع مظاهر الحالة المدنية بعد مرحلة طويلة من التخلف والانحطاط؟ يخسر الفرد بالعقد الاجتماعي حريته الطبيعية وحقا لا محدودا في كل ما يستهويه ويستطيع بلوغه هذا التجمع المدني.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات