38serv

+ -

ظاهريا، تعرف العلاقات الجزائرية الفرنسية “أزهى” أيامها بين البلدين، لكنها في الواقع تشهد حالة “قلق” بشأن المستقبل، بسبب اقتراب النظامين، كل حسب طريقته، من نهاية مرحلة سياسية، إذ تنتظر فرنسا انتخابات رئاسية العام المقبل، بينما يسود الغموض الوضع في الجزائر إثر الغياب المتواصل للرئيس بوتفليقة عن المشهد السياسي للبلاد.تشهد الجزائر تدفقا غير مسبوق للمسؤولين الفرنسيين الحاليين الممسكين بالحكم، أو أولئك المحسوبين على المعارضة اليمينية الشغوفة للعودة إلى الحكم، في حراك يبرز أهمية الجزائر التي تحتل العلاقات معها في كل استحقاق انتخابي في فرنسا حيزا معتبرا من النقاش بين مختلف درجات اللون السياسي من أقصى اليسار إلى اليمين.وقد مثلت زيارة آلان جوبي، رئيس بلدية بوردو، إلى الجزائر والتقائه مع المسؤولين الجزائريين، إحدى حلقات مسلسل الصراع القائم في اليمين المعتدل حول رئاسيات 2017. ويقدم جوبي بوصفه واحدا من أكثر الشخصيات اعتدالا في فرنسا ويحظى بشعبية واسعة وتقدير واحترام يجعله من بين أكثر المرشحين حظا.لكن مشاركة جوبي في الأدوار النهائية من الرئاسيات الفرنسية، تتطلب حتما اجتيازه للانتخابات الداخلية الأولية في حزبه “الجمهوريين” التي سينبثق عنها مرشح هذه التشكيلة السياسية، ومن ثم سيصطدم لا محالة بالرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي الذي يرأس حاليا “الجمهوريين”، ويتوقع أن يعلن ترشحه في الأشهر القادمة، وفق ما تشير إليه معظم القراءات التي رأت في عودته إلى السياسة رغبة منه في العودة إلى قصر الإليزيه.وضمن هذا السياق، قد تكون زيارة جوبي للجزائر، لرغبة منه في طمأنة المسؤولين الجزائريين بأن ما بات يصدر عن نيكولا ساركوزي بخصوص الجزائر في الفترة الأخيرة، لا يمثل إلا نفسه ولا يلزم باقي الشخصيات المترشحة تحت مظلة الجمهوريين، وما يؤكد ذلك أن تصريحات جوبي امتدحت العلاقات الحالية بين البلدين، رغم أن من يحكم حاليا في فرنسا هم خصومه الاشتراكيون الذين حاولوا إصلاح ما أفسدته فترة رئاسة ساركوزي التي كان في جزء منها جوبي وزيرا للخارجية.والفارق بين ساركوزي وجوبي، أن لكل منهما رغم انتمائه لليمين، إستراتيجيته الخاصة في كسب الأصوات، فالأول يريد مغازلة أصوات الجبهة الوطنية التي تقودها مارين لوبان، والثاني يريد أن يغرف من الوعاء الانتخابي للوسط واليسار المعتدل، لذلك يهدد ساركوزي بإلغاء بنود اتفاقية 1968 بين الجزائر وفرنسا، ويتبنى مواقف أكثر تشددا حيال المهاجرين، بينما يحتفظ جوبي بمواقف أكثر اعتدالا. أكثر من ذلك، يتبنى ساركوزي في حديثه عن الجزائر لغة “وصاية” تدغدغ مشاعر تيار لا يزال يشده الحنين في هذا البلد إلى “الجزائر فرنسية”، إذ قال في زيارة أخيرة له إلى تونس مثلا إن “مصير الجزائر” ينبغي أن يتحدد في “الاتحاد من أجل المتوسط”، مرجعا سبب الإرهاب في تونس إلى كونها تقع بين الجزائر وليبيا !جوبي الخيار الأمثل للجزائروبالنسبة للجزائر، يمثل جوبي الخيار الأمثل في حال فاز اليمين في رئاسيات العام القادم، إذ لا يتصور في حال عودة ساركوزي إلا أن تنتكس هذه العلاقات مجددا، إذا ما قيس ذلك على تجربته السابقة في الحكم التي عرف فيها محور الجزائر باريس برودا شديدا، أو إذا أخذت بالحسبان تصريحاته الأخيرة شديدة “الاستفزاز” تجاه النظام الجزائري، والتي لا يمكن معها أن تكون العلاقات “حميمة” كما هي اليوم.وبعيدا عن احتمالات اليمين، يعد استمرار الاشتراكي “فرانسوا هولاند” في الحكم، أحسن الخيارات على الإطلاق للنظام الجزائري، كون العلاقات وصلت إلى أوجها في فترته، سواء من الناحية السياسية التي أبدت فيها فرنسا مساندة ضمنية للعهدة الرابعة في الجزائر رغم وضع الرئيس بوتفليقة الصحي، أو في الجانب الاقتصادي الذي شهد توقيع عشرات العقود التي استفادت منها شركات فرنسية تضررت كثيرا من الأزمة المالية وقوة المنافسة العالمية.وقد نالت الحكومة الاشتراكية كل ما نالته مقابل “تخل” تام للسلطة في الجزائر عن مطالب “الاعتذار” التي كانت تقارع بها حكومات اليمين، خاصة في فترة مناقشة قانون تمجيد الاستعمار 23 فيفري 2005، إذ لم يكلف الرئيس الفرنسي نفسه إلا مبادرات رمزية لتهدئة حمى الذاكرة المستعرة، استطاع بها إسكات الجانب الجزائري تماما في هذه المسائل، والتفرغ للصفقات الاقتصادية التي شكلت أولوية كل الزيارات الرئاسية والوزارية الفرنسية.مبادرات رمزية مقابل استسلام تاموهكذا، استطاع هولاند، تارة بالاعتراف بمسؤولية الشرطة الفرنسية في مجزرة 17 أكتوبر 1961 بباريس، وتارة بالتأكيد خلال زيارته للجزائر أن الاستعمار سبب مآسي كبيرة للجزائريين، أن يحصل على ما يريد، أما فعليا فلم تكن لدى الرئيس الفرنسي حتى الشجاعة لإعادة مدفع بابا مرزوق كبادرة رمزية كانت تنتظر منه خلال زيارته للجزائر في ديسمبر 2012، ناهيك عن الاعتراف والتوبة ثم الأرشيف وخرائط الألغام ومسؤولية الجرائم النووية.وقابلت السلطة في الجزائر كل ذلك بتنازلات رمزية ثقيلة المعنى، آخرها زيارة أولى من نوعها لوزير للمجاهدين جزائري إلى فرنسا، وقبل ذلك تدشين سابقة تاريخية بحضور الاحتفالات المخلدة لذكرى الحربين العالميتين الأولى والثانية التي أقيمت تزامنا مع العيد الفرنسي في 14 جويلية، ثم حضورها ذكرى إنزال بروفانس في 14 أوت، متجاهلة رفضا بدا في ظاهره عنيفا من منظمة المجاهدين لهذا الحضور ثم استسلم راضخا للأمر الواقع.أما سياسيا، ينظر جزء واسع من المعارضة أن النظام في الجزائر يستقوي بالجانب الفرنسي في دعم استمراريته، ويتم تحميل الرئيس بوتفليقة مسؤولية تعيينه وزراء لديهم علاقة مصلحة قوية بفرنسا سواء بامتلاكهم عقارات هناك أو تفضيلهم الشركات الفرنسية في العقود، وهو ما يعني حسبها أن الظروف التي اجتمعت حاليا وجعلت من العلاقات في أقوى حالاتها، قد لا تتكرر مستقبلا في حال غادر الرئيس وجماعته الحكم.لكن بعيدا عما يمكن أن يظهر كـ”مزايدات” سياسية، هل صبت هذه العلاقات “الحميمة” حقا في مصلحة الجزائر؟ الأرقام الاقتصادية تشير إلى أن المستفيد الأكبر كان الجانب الفرنسي، لأن الجزائر لا تزال سوقا لتصريف أكثر من 5 ملايير دولار من السلع الفرنسية سنويا، بينما لا تستورد من الجزائر سوى البترول والغاز، ناهيك عن عقود التسيير والامتياز التي حصلت عليها الشركات الفرنسية (رونو مثلا) مقابل عائد اقتصادي ضعيف للجزائر. ولا يجد الجانبان عدا ذلك، لإظهار الإنجازات المتحققة سوى الحديث عن ارتفاع عدد التأشيرات الممنوحة للجزائريين، وهو دليل أزمة إذا ما قيس العدد الهائل للإطارات التي تهرب من الجزائر بسبب هذه الفرصة!

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات