+ -

 أجل، لقد بات ابن حزم خبير الحب للقرن الواحد والعشرين، بعد أن أصبح يتربع على مملكة الأنترنت بورود اسمه 198000 مرة كل 0.1 دقيقة، وأكبر زواره على الشبكة هم من فئة الشباب الذين يجدون في رائعته طوق الحمامة في الألفة والآلاف أجوبة لتساؤلاتهم، كما أن أدبيات الحب تضع اسمه كمرجعية أساسية لمن يريد أن يبحث في فلسفة الحب عبر المواقع الأكاديمية، واسمه موجود في مواقع الموسوعات العالمية، ويجني موقع الأمازون ذائع الصيت أموالا طائلة ببيع طوق الحمامة مترجما إلى اللغة الإنجليزية.  أجل إنه سؤال الحب، وليس سؤال الحرب، يجيب عنه إمام الأندلس وأديبها في القرن الرابع الهجري، من خلال طوق الحمامة الذي ترجم إلى كل لغات أوروبا، كما انتشر اسمه في ستة آلاف عنوان في المكتبات الغربية، تناول فيها المستشرقون الدور الذي لعبه ابن حزم في الارتقاء بالعواطف الإنسانية، ومنهم من اعتبره الأب الروحي للتيارات الأدبية المختلفة منذ القرن الثاني عشر الميلادي.أما عاطفة الحب، فمنذ البداية يعلن استعصاءها على التعريف، فيحاول وصف الحب كحالة قبل أن يجتهد في تعريفه، مؤكدا أن ”أوله هزل وآخره جد دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة وليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة”، ثم يأتي ابن حزم بأمثلة لا حد لها من الخلفاء والأئمة والصالحين والفقهاء من الذين أحبوا، فشاع ذلك عنهم وثبتت أعراضه لديهم على مر التاريخ. ثم يحاول خبيرنا تحديد ماهية الحب، فيذهب في ذلك إلى أنه ”اتصال بين النفوس في عالمها العلوي”، ليجزم بعد ذلك بأن المحبة ضروب يذكرها جميعها، معتبرا أنها إذا كانت لسبب من الأسباب تفنى بفناء سببها بما في ذلك محبة اللذة، ولو كانت علة الحب كما يقول حسن الصورة الجسدية، لوجب ألا يستحسن الأنقص في الصورة، ولو كان للموافقة في الأخلاق لما أحب المرء من لا يساعده ولا يوافقه، فمحبة العشق عند ابن حزم لا علة لها سوى تمازج الأرواح واتصال النفوس في عالمها العلوي: إذا وجدنا الشيء علة نفسه فذاك وجود ليس يفنى على الأبد.أما الذي استوقفني من أبواب الكتاب التي جاءت هيئتها في الإيراد ممنهجة ودقيقة، من ماهية الحب إلى علاماته وأبواب من أحب بالوصف أو النظرة الواحدة والتعريض بالقول أو الإشارة بالعين أو المراسلة، وغيرها من أبواب طي السر وإذاعته وباب العاذل والرقيب والواشي والوصل والتعفف الخ... من بين كل هذه الأبواب الذي استوقفني منها باب ”من لا يحب إلا بالمطاولة”، حيث يقول (وإني لا أطيل العجب من كل من يدعي أنه يحب من نظرة واحدة ولا أكاد أصدقه، ولا أجعل حبه إلا ضربا من الشهوة. وأما أن يكون في ظني متمكنا من صميم الفؤاد نافذا في حجاب القلب، فما أقدر ذلك وما لصق بأحشائي حب قط إلا مع الزمن الطويل وبعد ملاءمة الشخص لي دهرا وأخذي معه في كل جد وهزل).محبة صدق لم تكن بنت ساعة   ولا رويت حين ارتفاد زنادهاولكن على مهل سرت وتولدت   بطول امتزاج فاستقر عمادهاوفي هذا السياق، يعود ابن حزم ليؤكد أن ذلك لا يتناقض مع تعريفه للحب على أنه اتصال بين النفوس في عالمها العلوي، بما أن النفس في هذا العالم الأدنى قد غمرتها الحجب، وأحاطت بها الطبائع الأرضية، فسترت كثيرا من صفاتها، فلا يرجى الاتصال على الحقيقة إلا بعد إيصال المعرفة بها بما يشاكلها ويوافقها، ومقابلة الطبائع التي خفيت بما يشابهها من طبائع المحبوب، وحينئذ يتصل اتصالا صحيحا بلا مانع. وأما ما يقع من أول وهلة من أعراض الاستحسان الجسدي واستطراف البصر، فهذا سر الشهوة ومعناها على الحقيقة فإذا فضلت الشهوة وتجاوزت هذا الحد ووافق الفضل اتصال نفسي تسمى عشقا.إن في هذا المعنى دليلا على أن مفهوم الأنوثة يتجاوز مفهوم الفتنة الخاطف، بما يتضمنه من ولع مباشر ومسطح بالجسد مركب الغريزة وليس الجسد مركب الروح، فالافتتان السريع عند ابن حزم قائم على تجريد الجسد والكيان الأنثوي من أي عمق إنساني، وهو أشبه بقصص ألف ليلة وليلة، وما تتضمنه من حالات الشغف والإغماء والأسقام التي تصيب من تصيب بمجرد لفتة أو نظرة، ولعل هذا الاعتبار للإنسان في الأنثى، هو الذي مثل الخلفية لدى ابن حزم في تفصيله لحقوق المرأة في ذلك الزمان في الجزء الثالث من الإحكام عندما اعتبر أنه من غير الجائز خص الرجال بشيء دون النساء إلا بنص جلي كما أسند القضاء للمرأة بإطلاق في كتابه المحلى. وفي ظل هذه المعطيات الجميلة والعميقة، يبدو جليا أن الحب ليس أعمى وليس فخا للجنس كما يقول شوبنهاور، ولكنه اتصال وتمازج نفوس في عالم علوي، ومنه يتبين أن الأنوثة تحمل كينونة وجوهرا يتجاوز الحواس والغرائز بالتمازج معها والارتقاء بها، وأن الدين قد كرم المرأة تكريما عجزت الثقافة عن استيعابه وتمثله، وأن المجددين وحدهم معنيون ببناء ثقافة الاستيعاب تلك التي ترتقي بنا إلى فلسفة ابن حزم في الحب والذات.  

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات