الاتزان العقلي نصاب لابد من توفره في أي جو ديني! إنه أساس التكاليف الدينية، ثم هو بعدُ أساس التحدث إلى الناس باسم الإسلام.. وسعة العِلم ضرورة لفهم وجهات نظر المجتهدين، وترجيح مذهب فقهي على آخر.. أما مرتبة الاجتهاد المُطلَق فاعتقادي أنها درجة أسنى تقوم ـ بدءًا- على الفضل الإلهي كما جاء في الحديث: “.. إلا فهمًا يؤتاه رجل في كتاب الله”، وكما جاء في الآيات: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ، فَفَهمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا..}.وانظر إلى عبد الله بن عباس كيف فهم من سورة النصر ما غاب عن أفهام الصحابة في مجلس عمر، فقال موضحًا المعنى المراد: أراه حضور أجل النبي صلى الله عليه وسلم..! إن هذا الذكاء اللماح بعض الحكمة التي ينعم الله بها على مَن يريد له الخير {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا..}.إن جو الفقه والفتوى وتربية الأمة وتبصير أولي الأمر شأو يستبعد منه قصار الباع والهمة والفكر، ويستحيل أن يحيا فيه المتطاولون الذين يحسنون الهدم ولا يطيقون البناء.. نقول ذلك كله لنلفت الأنظار إلى خاصة بارزة في ثقافتنا القديمة هي أن عمل الفقهاء أكمل جُهد المحدثين وضَبَطَهُ وأحسن تنسيقه ويسر الإفادة منه. ومن ثم قاد الفقه حضارتنا التشريعية في أغلب العصور..والتأمل في الآثار الواردة يجعل وظيفة الفقهاء لا محيص عنها، ويجعل الاستقصاء المباشر من السنة صعبًا على العامة ومَن في منزلتهم من ذوي النظر القريب، ذلك أن هناك قضايا وردت فيها آثار متقابلة، وقضايا أخرى لا ينفرد بالبت فيها حديث فذ..روى مالك قال: بلغني أن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه تكارى أرضًا فلم تزل في يديه حتى مات! قال ابنه: فما كنت أراها إلا لنا من طول ما مكثت في يديه! حتى ذكرها لنا عند موته وأمرنا بقضاء شيء كان عليه من كرائها، ذهب أو ورق... وهذا الحديث يجيز استئجار الأرض لزراعتها.وروى الشيخان عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض وهي تهتز زرعًا، فقال: “لمَن هذه؟”، قالوا: اكتراها فلان، قال: “لو منحها إياه كان خيرًا من أن يأخذ عليها أجرًا معلومًا”..، وفي رواية عن نافع بن خديج: سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كيف تصنعون بمحاقلكم؟”. قلت: نؤاجرها على الربع، وعلى الأوسُق من التمر والشعير. قال: “لا تفعلوا، ازرعوها ـ يعني بأنفسكم - أو أزرِعوها ـ أي امنحوها غيركم - أو امسكوها!”. قال رافع: قلت: سمعًا وطاعة!وللفقهاء كلام في هذه المرويات، فمنهم مَن رفض الإيجار حيث تجب المواساة والتراحم، وأباحه في الأحوال العادية، ومنهم مَن رفضه إذا كان هناك غبن أو غَرَر، ومنهم مَن أبطل المزارعة! ومنهم مَن أباحها! وكلاهما غلب بعض النصوص على بعض آخر لملحظٍ ما، وليس هنا مكان التفصيل!
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات