الكراسـي تدفع بالمسؤولين إلى التنكّر لماضيهم

+ -

بمجرد تسلق المسؤولين السامين، مناصب عليا في هرم السلطة، يقطعون حبل علاقاتهم، ويتوارون عن الأنظار، وبالكاد تصبح تشاهدهم إلا من خلال الشاشة، ويستعصي في بعض الأحيان حتى على أقربائهم التواصل معهم، فمنهم من يغيّر رقم هاتفه النقال وآخر يغيّر مقر إقامته،  فيما فضّل آخر  التسلل خلسة إلى بيته في الظلام باستعمال سيارة صديقه، لتمويه معارفه متحاشيا الكلام معهم. “الخبر” سلطت الضوء على الظاهرة من زاويتها الاجتماعية، بعيدا عن جوانبها السياسية، ونقلت شهادات لشخصيات سياسية سبق لها وأن اعتلت مناصب في أعلى هرم السلطة، وبحثت رفقتهم عن الأسباب والدوافع الحقيقية التي تجعل البعض منهم يغيّرون نمط حياتهم فور اعتلائهم تلك المناصب.“يظنون أنهم خالدون في السلطة”علّق وزير التضامن والصحة السابق، جمال ولد عباس على الظاهرة متسائلا: “هل يظن هذا المسؤول “المتعجرف”، أنه سيخلد في ذلك المنصب؟ بالطبع سيأتي اليوم الذي تنتهي فيه عهدته أو يتم تجريده من المنصب الذي يشغله ويعود إلى ما كان إليه سابقا”. وأضاف أيضا: “القضية قضية أخلاق، ثم هي مسؤولية تجاه نفسه وكذا محيطه الاجتماعي”.أما بالنسبة للتغيرات التي طرأت على حياته الاجتماعية الخاصة عندما كان يشغل أهم المناصب في السلطة لمدة فاقت 13 سنة، آخرها الحقيبة الوزارية، قال ولد عباس: “نمط حياتي لم يتغير خلال كل تلك الفترة، ولم أقطع علاقاتي مع أي كان”، يواصل “تعرضت وقتها لبعض الإحراج من طرف البعض من معارفي وحتى من طرف أشخاص لم يسبق لي التعرف عليهم، لكني كنت أتعامل معهم بحنكة وذكاء، وأستمع لجميع أقوالهم وأحاول قدر المستطاع مساعدتهم، لا تنسى أن الوزارة التي كنت أشرف على تسييرها مهامها إنساني بالدرجة الأولى”.ويضيف ولد عباس: “عندما تكون شخصية وطنية لها وزن في المجتمع، من الطبيعي جدا أن تلحقك الانتقادات، وبعض أولئك المنتقدين يغتنمون فرصة تواجدك على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، كي يصبون جام غضبهم فيك وينشرون غسيل شتائمهم”.  أغلبهم ينحدر من الطبقة الشعبيةمن جهته، أرجع رئيس حزب جبهة التغيير، عبد المجيد مناصرة، مصدر هذا السلوك الذي ينتهجه المسؤول الجزائري، إلى انعدام الفرق الشاسع في الطبقات بين أفراد مجتمعنا، بمعنى أن الوزير أو الضابط العسكري السامي أو النائب البرلماني، ينحدر أغلبهم من الطبقة الشعبية، وبالتالي قد يكون عرضة لإحراج من طرف بعض أفراد عائلته ومعارفه القدامى والمقربين منه، الذين تجد بينهم البطالين والفقراء والمحتاجين وغيرهم. وهنا أفاد محدثنا قائلا “يجب على المسؤول التعامل مع هذه القضايا الاجتماعية بذكاء وليونة، ويحاول قدر الإمكان الابتعاد عن غلق قنوات الاتصال بهم”، لأن من أخطر الأمور التي قد يتعرض لها المسؤول في حياته هو قطع حبل الاتصال مع باقي أفراد مجتمعه، “لأنه حتما سيعزل نفسه بامتياز”، مرجعا التغيّر الذي يحدث في شخصية المسؤول إلى “طبيعة الفرد وثقافته السياسية من جهة، وإلى الطريق الذي انتهجه حتى وصل إلى ذلك المنصب”.ومما ذكره مناصرة عن علاقة المسؤول مع محيطه الاجتماعي، أن “هناك نوعان من المسؤولين، الأول وصل إلى الحكم بطرق ملتوية أو تم تعيينه من أعلى هرم السلطة، ولم يسبق له أن انتهج النضال السياسي الذي يكون صوت الشعب فيه العامل الأساسي لارتقائه. وبالتالي تجده يخدم الجهات العليا التي كان لها الفضل في وصوله إلى ذلك المنصب، بل البعض منهم يقطعون علاقاتهم حتى مع أقربائهم وأفراد عائلاتهم”.أما الفئة الثانية، حسب المتحدث، تلك التي وصلت إلى الحكم بفضل أصوات المنتخبين ونتيجة نضال سياسي طويل، فأغلبهم وليس كلهم، يتابع المتحدث: “لا يقطعون وصال العلاقات مع باقي أفراد المجتمع، لأنهم في احتكاك متواصل مع جميع الطبقات ولهم انضباط اتجاه حزبهم واتجاه منتخبيهم، وحتما سيرجعون إلى حضنهم بمجرد انتهاء عهدتهم الانتخابية”.وتأسف رئيس حزب جبهة التغيير لتفشي البيروقراطية والفساد في النظام، “مما أدى بطريقة أو بأخرى إلى لجوء المواطن إلى أول مسؤول قد يتمكن من الوصول إليه لحل مشاكله الشخصية واسترجاع حقوقه المهضومة”. وكشف أنه يتلقى ملفات المواطنين في كل مكان سواء عند زيارته للعائلة وخلال الزيارات الرسمية وفي الطريق وحتى أثناء اجتماع الحزب”، مشيرا إلى أنه شخصيا يرى فيها قناة معلومات لا يمكن الاستغناء عنها. أما النائب البرلماني في حزب العدالة والتنمية، لخضر بن خلاف، لم يخف علينا بأن الكثير من المسؤولين يتغيّر مزاجهم ما إن يشغلوا مناصب عليا في السلطة، سواء وصلوا عن طريق الاقتراع أو تم تعيينهم بطريقة مباشرة، “فتجدهم يتكبّرون على معارفهم وأصدقاء دربهم، ويصبح همّهم الوحيد التشبّث بالمقعد الذي يجلسون عليه في السلطة، ولا يكترثون بمشاغل المواطنين، وكم هم كثيرون في الجزائر”، على حد قوله. ضغط ثم تحاشي.. فقطع علاقاتلكن يضيف الرجل الثاني في حزب العدالة والتنمية: “بعض المواطنين المغلوبون على أمرهم يظنون أن لهم كامل الحقوق في تلك الشخصية التي يرون فيها الحل الأوحد لمشاكلهم، بيد أن ذلكالمسؤول وصل إلى منصبه بفضل أصواتهم الانتخابية وعليه أن يرد لهم الجميل”، وواصل يعلّق على الظاهرة: “هي تحصيل حاصل للحالة الاجتماعية المزرية التي يعيشها أغلب المواطنين الذين يعانون التهميش وسلبت منهم أدنى حقوقهم المشروعة، فيلجأون مباشرة إلى المسؤول الأول الذي يعرفونه”. وأضاف بن خلاف “تصرفات ومضايقات يتسبب فيها الآلاف من المواطنين، تترجم ضغطا رهيبا على المسؤول يجعله يتحاشى ارتياد المناطق العمومية ويغيّر من نمط عيشه، وحتى في بعض الأحيان يغيّر مقر سكناه، وإن استوجب الأمر يستغني عن رقم هاتفه النقال، بحثا عن جو آخر أكثر راحة”.وحتى في المسجد!وتابع المتحدث يشرح الظاهرة قائلا “فتجده يستعمل كامل الوسائل الممكنة للتمكن من الاتصال بك، سواء عن طريق الهاتف أو شبكات التواصل الاجتماعي، بل يلجأ حتى للبحث عنك في المنزل وفي أوقات متأخرة من الليل وأثناء العطل”. والغريب في الأمر، يواصل المتحدث “جهلهم للمعاناة التي يسببونها لك، ظنا أنهم الوحيدين الذين يلجأون إليك وبأن أمثالهم يعدّون بالمئات أو بالأحرى بالآلاف”. وانتهى بن خلاف بالقول: “وصل الحد بالبعض منهم لاغتنام فرصة أداء الصلاة في المساجد للاقتراب من المسؤولين، وتجدهم يلجون بيت الله محملين بالملفات”.      يدخل بيته خلسة في الظلام!يروي أحد سكان حي راق في العاصمة “الخبر”، متحدّثا عن أحد أبناء حيه الذي ارتقى إلى منصب مدير عام لفندق عمومي فخم في الجزائر العاصمة، قائلا بتهكّم “اشتقنا لرؤيته وهو الذي كان يجلس معنا ويدرس برفقتنا وحتى طاولة “الدومينو” كانت تجمعنا في ليالي رمضان، أما اليوم بعد أن ثقل وزنه قرّر تغيير مقر سكناه، وقاطعنا نهائيا حتى في الأعياد والمناسبات”.وأضاف متأسفا: “صحيح أن الكثير من أبناء الحي سببوا له ضغطا رهيبا أمام مقر سكناه، ولك أن تذهب إلى الفندق الذي يعمل فيه لتجد أن أغلب شباب الحي يشتغلون هناك، لكن أن يقاطع جيرانه ومن ترعرع برفقتهم، ويصل به الحد إلى دخول الحي باستعمال سيارة “قديمة” مقارنة بسيارته الفخمة، وفي بعض الأحيان يمر علينا من دون إلقاء التحية، فهذا أمر آخر يخصه”.ليس المدير العام الوحيد الذي يدخل خلسة إلى بيته، بل اعترف أحد نواب البرلمان السابقين عن حزب جبهة التحرير الوطني، أنه كان ولدى عودته إلى مسقط رأسه بإحدى المدن الداخلية، يتسلل هو الآخر إلى بيته في ساعات متأخرة من الليل: “أركن السيارة في المرأب بعيدا عن الأنظار، ناهيك عن الكومة الكبيرة من الملفات التي أجدها في انتظاري داخل منزل الوالدين في كل زيارة أقوم بها”. لا أثر لهم في “الفايسبوك” في الدول الغربية المتطورة، باستطاعة أي كان الاقتراب من أكبر المسؤولين باستعمال وسائل التواصل الاجتماعي على غرار “تويتر” و«فايسبوك”، أو الاتصال بهم مباشرة في أي مكان عمومي قد يتواجدون فيه، لكن النقيض في الجزائر، أين يستحيل عليك التواصل مع أي شخصية مهما كان وزنها، بيد أن أغلب المسؤولون يطلقون أسماء مستعارة على حساباتهم الالكترونية ويكتفون بالتواصل مع فئة معينة من معارفهم، غالبا ما تكون من الطبقة التي ينتمون إليها.مثلما هو الحال بالنسبة لعضو في مجلس الأمة حاليا، والوزيرة المنتدبة السابقة المكلفة بالأسرة وقضايا المرأة نوارة جعفر، التي لم تخف علينا في اتصال مع “الخبر” استعمالها اسم مستعار أطلقته على حسابها الخاص  “فايسبوك”.وفي ردها عن الأسباب التي دفعتها مثل غيرها من المسؤولين الجزائريين، إلى استعارة اسم لحسابها الخاص، عكس ما يحدث في المجتمعات الغربية المتطورة، قالت محدثتنا موضحة: “صحيح، يستوجب علينا الاحتكاك بباقي طبقات المجتمع، على الأقل عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، للإطلاع على الرأي الآخر ومعرفة وجهة نظر باقي أفراد مجتمعنا لممارسة المهام السياسية على أحسن وجه”، لكن من جهة أخرى “لا ننسى أن الكثير من المواطنين يلجأون للمسؤولين على أتفه وأبسط المشاكل، وبعضهم يحرجوننا من خلال طلب التوسط لهم في حل مشاكل حساسة كتلك القضايا المتعلقة بالعدالة مثلا، والتي تفوق طاقتنا في بعض الأحيان بصفتنا مسؤولين سامين في الدولة”. الباحثة في علم الاجتماع، أمينة ميساعيد “المناصب العليا تنسي المسؤولين هويتهم” أرجعت الباحثة في علم الاجتماع والأستاذة بالمدرسة الوطنية العليا لإدارة الأعمال، أمينة ميساعيد، الأسباب الرئيسية التي تدفع بالمسؤول الجزائري إلى قطع قنوات الاتصال مع باقي أفراد مجتمعه، إلى مجموعة من العوامل، منها ضيق الوقت وعدم تفرغه إلى حياته الاجتماعية بالصورة التي كان عليها سابقا، وإلى الإحراج الذي يتعرض له من طرف معارفه للتوسط لهم في حل بعض مشاكلهم.كما تطرقت إلى غياب الأمن في الأحياء الشعبية الجزائرية، والذي يدفع بالإطار السامي إلى تغيير مقر سكناه، ناهيك عن تناسي الهوية الأصلية وعدم الاعتراف بالذات نتيجة قفزه المباشر من طبقة إلى أخرى دون مروره عبر مختلف المراحل الأساسية.من جانب آخر، قالت المتحدثة إن “بعض المسؤولين قفزوا إلى مناصب عليا ربما بطرق ملتوية وغير شرعية، واعتمادا على العلاقات التي كانت تجمعهم مع أصحاب النفوذ في السلطة وليس عن طريق الكفاءة المهنية، دون المرور عبر مختلف المراحل، فتجدهم يفضّلون قطع العلاقات مع الأشخاص لتجنّب اللوم والإحراج بالأسئلة، والخوف من مطالبتهم بالنتائج التي سبق الوعد بها.وأشارت الباحثة بمركز البحوث في الاقتصاد التطبيقي إلى نقطة أخرى قائلة: “في كل المجتمعات، هناك قواعد تضبط التطور في السُلم الاجتماعي مثلما هو الحال بالنسبة للمشوار المهني، بينما في مجتمعنا صاحب المنصب مهما كان وزنه، ليس بالضرورة أن تتوفر فيه شروط مطابقة لذلك المنصب الذي يشغله”، وبالتالي تضيف المتحدثة، “من غير الممكن أن نشرح التنظيم الهرمي وأن نقارنه بباقي المجتمعات المتطورة، هذه الأخيرة ورثت ذلك التنظيم من جيل إلى جيل، وهذا ما يسمى في علم الاجتماع “الاستنساخ الاجتماعي”، والذي يتطلب مجموعة من الشروط على غرار “رأس المال الاجتماعي”. أما في الجزائر، تواصل المتحدثة “لا تتكون الطبقات الاجتماعية بنفس وتيرة المجتمعات الأخرى”، مشيرة إلى أن “الكثير من مسؤولينا يقفزون من طبقة إلى أخرى بسرعة، سواء بسبب الغنى السريع أو بسبب الوصول إلى مناصب عليا،  دون المرور على باقي المراحل الأخرى، وهو ما يولّد لديهم مشكلة عدم الاعتراف بالذات وتناسي هويتهم الأصلية.     الباحث في علم الاجتماع السياسي، الدكتور لعراجي كريم“التنشئة الاجتماعية والتكوين الأكاديمي يتحكمان في العلاقات الاجتماعية”يرى الباحث في علم الاجتماع السياسي بجامعة سيدي بلعباس، الدكتور لعراجي كريم، أن الواقع الاجتماعي فرض على المسؤول الجزائري، بعض التغييرات في الحياة الاجتماعية، معتبرا عامل التنشئة الاجتماعية وكذا التكوين الأكاديمي من أهم مقويات العلاقات الاجتماعية.واستدل الدكتور لعراجي كلامه بمثال عن شخصية الراحل هواري بومدين، قائلا: “الشخص كانت لديه كاريزمة استمدها من الطبقة التي نشأ فيها طيلة حياته، لذلك كان متعاطفا مع الطبقة العاملة التي يتقاسم معها البساطة، وأغلب مشاريعه كانت موجهة إلى تلك الطبقة الكادحة”، بينما يواصل المتحدث في شرح الظاهرة من جانبها الاجتماعي الأكاديمي بالقول: “مصالي الحاج، مثلا، ابن عائلة بورجوازية ومثقفة، وبالتالي لم يكن يتقاسم وجهة النظر مع باقي أفراد المجتمع الجزائري إزاء ثورة التحرير”.ويذكر لعراجي عن التنشئة الاجتماعية، “أن الإنسان ابن بيئته مثلما يقول مثل شعبي سويسري “نحن نتأثر بمحيطنا ونستأنس به”، في إشارة منه إلى تفضيل بعض المسؤولين الانغلاق على أنفسهم وقطع قنوات الاتصال مع باقي الطبقات الأخرى، بل تجدهم في اتصال إلا مع فئة معينة تقاسمهم نفس الطموحات وينظرون إلى أهداف متقاربة”.وأضاف المتحدث بأن “أغلب المسؤولين الجزائريين، باشروا تكوينهم الأكاديمي خلال تسعينيات القرن الماضي في أوروبا الشرقية، وبالتالي ابتعدوا قليلا عن واقع المجتمع الجزائري، وتناسوا هويتهم الأصلية”، أضاف: “يجهل أغلبهم التدرج في الوظائف، عكس المجتمعات الغربية الراقية، أين تجد مثلا الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك الذي كان رئيس بلدية، أو فرانسوا ميتران من مناضل في حزب سياسي إلى رئيس دولة ومن أكبر قادة التيار اليساري في العالم”. من زاوية أخرى، قال المتحدث إن “الثقافة الاجتماعية في الجزائر لا تزال مريضة، ولم تجتاز بعد عقدة الاستقلالية من دون محسوبية، مشيرا إلى أن “المجتمع الجزائري لا زال في مرحلة اجتماعية، ولم يمر بعد إلى مرحلة المجتمعية، وبالتالي يجد المسؤول نفسه مضطرا لخدمة الأشخاص المقربين منه والتوسط لحل جميع مشاكلهم، وهو أمر مستحيل”. وانتهى المتحدث بالقول، بأن الغايات الاجتماعية سيطرت على أفراد المجتمع الجزائري، بيد أن الشخص يخدم ويتواصل مع من لديه مصلحة، بغض النظر عن بعض المسؤولين الذين تجدهم محسوبين على بعض الفئات عن غيرها.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات