38serv

+ -

يسلب الموت حياة أطفال الجزائريين في عمر الزهور، بسبب نقص فضاءات اللعب في الكثير من الأحياء السكنية. فرغم تغني وزير السكن في كل مرة بإنشاء مجمعات سكنية فيها مساحات للعب الأطفال، إلا أن الأمر لايزال مجرد حبر على ورق، ليتخذ الأطفال من الشارع والأرصفة مكانا للعب والتسلية. فالطفل إسلام شرقي لقي حتفه في عمارة مهجورة بعين البنيان في العاصمة، وقصة البرعم شرف الدين مرزوقي صاحب العامين من العمر لاتزال تلقي بظلالها على حياة والده العمري الذي يتذكر كيف ابتلعت بركة مائية فلذة كبده، بينما أزهقت أرجوحة بالية روح الطفل فاروق.. والقائمة طويلة. ساد الحزن عائلة الزعبي والجيران بحي الوفاق ببلدية الدبيلة شرق الوادي، بسبب فقدانها لطفلها عبد الرحمن البالغ من العمر أربع سنوات قبل يومين، إثر انزلاقه في بئر عميقة مخصصة لصرف المياه القذرة أثناء لعبه مع بعض الأطفال.يقول والد الضحية، السيد عبد السلام، لـ”الخبر”، وهو في حالة حزن واستياء شديدين: “ذهبت شقيقته الكبرى البالغة سبع سنوات للدراسة، وتوجهت لعملي بأحد الحقول الفلاحية، وتركت الأم مع طفلها عبد الرحمن الذي كان يلح عليها بضرورة الخروج للعب خارج البيت، حيث توجد بئر تقليدية عميقة لصرف المياه القذرة لأحد الجيران لانعدام شبكة التطهير، وكانت الحفرة لا ترى بالعين المجردة لكونها مغطاة بالرمال. فخرج الطفل وشرع يلهو ويلعب في المكان، دون أن يعلم ورفاقه أنهم يلعبون فوق سطح البئر والتي تآكلت جدرانها الداخلية بفعل مياه الصرف”. وأضاف محدثنا أنه في حدود الساعة الحادية عشرة، تفقدت الأم ابنها الذي لم يرجع إلى البيت، فلم تجده خاصة أن جميع الأطفال الذين كانوا معه عادوا إلى منازلهم . فانتبهت الأم إلى وجود انزلاق أرضي صغير في موقع الحادثة، فإذا هو البئر وقد انهار سطحه والطفل قد هوى منذ مدة غير معلومة إلى قعره داخل المياه القذرة على عمق يفوق أربعة أمتار، لتكتشف أنه ابنها، فراحت تصرخ وتطلب النجدة إلى غاية تدخل أعوان الحماية المدنية الذين انتشلوا جثته ونقلوها إلى المستشفى المركزي وسط حالة استياء وحزن من طرف سكان الحي.وأكد عبد السلام أن الحي يخلو من أي ساحة للعب أو مساحة خضراء وترفيه للأطفال كان يمكنها أن تستقطب طفله وأطفال الحي، كما أوضح أنه لا يوجد نادٍ ثقافي ولا قاعة رياضية للشباب.إسلام والعمارة المهجورةوفي الجزائر العاصمة، أرجعت والدة الطفل إسلام شرقي ذي الـ12 عاما، الذي لقي حتفه إثر سقوطه من الطابق السادس لعمارة مهجورة وغير مكتملة البناء بحي المنظر الجميل بعين البنيان في العاصمة الشهر الماضي، سبب وفاة فلذة كبدها إلى غياب الفضاءات المخصصة للعب والمرافق الترفيهية بالحي، وأعابت على السلطات المحلية إهمالها لهذا الجانب الذي كان سببا في وفاة ابنها ولو أن القدر ساقه إلى هناك.زارت “الخبر” عائلة الطفل إسلام الذي يدرس بالسنة الثانية متوسط بمؤسسة جمال الدين الأفغاني بمقر سكناه بمزرعة خير مبارك، حيث روت الوالدة آخر يوم قضاه ابنها بالمنزل، حيث صلى صلاة الجمعة كعادته وعاد إلى البيت حيث تناول وجبة الغداء معهم، لكنه وبعد صلاة العصر غادر البيت رفقة أصدقائه من الحي للعب الكرة معهم، قائلا إنه لن يعود لتناول اللمجة كعادته “وهذا ما أثار دهشتي كونه يحب دائما تناولها بالمنزل”.وتضيف محدثتنا وهي تردد “قدر الله وما شاء فعل.. فبعد وقت من الزمن هرع أصدقاؤه إلى المنزل ليخبرونا أن إسلام سقط من الطابق السادس للعمارة التي لا تبعد عن مسكنهم إلا ببضعة أمتار فقط”.وفي هذه الأثناء يشاركنا بلال، وهو شقيق إسلام الأكبر، الحديث قائلا: “هرعت مسرعا إلى المكان، حيث وجدت إسلام داخل حفرة والدماء تسيل من رأسه، فحملته بين ذراعي إلى السيارة نحو مستشفى باينام لتلقي الإسعافات، حيث أدخلوه مصلحة الإنعاش لخطورة الإصابة، ليفارق الحياة بعدها”.وصبت والدة الطفل إسلام جام غضبها على الوزارة الوصية والقائمين على المشروع السكني، حيث مات إسلام إذ “تُرك المشروع مهملا منذ سنة 2002، ولم يتم إحاطته بسياج، في حين لا يجد أبناؤنا الصغار مكانا للعب ونضطر لمرافقتهم إلى الفضاء المتواجد بجوار الطريق الرئيسي للبلدية، الذي أتلفت فيه المرافق جراء غياب حارس بالمكان” .زرنا مكان الحادث رفقة شقيق الضحية، وقبل أن ندخله قال بلال “صدقني أخي لا أستطيع الدخول حتى لا أتذكر تلك اللحظة التي رأيت فيها أخي يسبح وسط الدماء” التي لاتزال بالمكان إلى حد الآن، ليشير محدثنا إلى آلات الهدم التي سارعت السلطات المحلية لتسخيرها في العملية لاحتواء الوضع، “ولكنها جاءت متأخرة وبعد أن فقدنا أخي، وكان عليها التدخل منذ سنوات لإتمام المشروع أو هدمه لأنه تحول إلى وكر للمنحرفين”.أرجوحة بالية تزهق روح “فاروق”اكتوى سكان سيدي صالح المترامية الأطراف على سفوح جبل “البيك” بأعالي بلدية مناصر، جنوبي ولاية تيبازة، ذات أربعاء من آخر أسبوع لشهر جويلية 2013، بحرقة الوفاة التراجيدية التي راح ضحيتها البريء “فاروق”، ذلك الطفل الذي انطفأت شمعة حياته وهو على أعتاب الربيع التاسع من العمر، حيث لاتزال ذاكرة القرويين هناك تأبى نسيان مشاهد تلك الجثة وهي ممدودة على حبال أرجوحة صنعها أبناء القرية بحبال بالية مثبتة بين أغصان أشجار التين التي تبقى شاهدة على الحادث.يتذكر أهالي سيدي صالح والقرى المحيطة بها، في حديثهم مع “الخبر”، مأساة الطفل “فاروق” الذي تعود بصحبة رفاقه الولوج إلى غابة جبل “البيك”، قاصدا “فضاء اللعب” الوحيد بالقرية و«المصمم” محليا على شكل حبال موصولة بين أغصان الأشجار وجذوعها، بما يشبه أرجوحة يلتف حولها أبناء القرية بفئاتهم العمرية المختلفة ظهيرة كل يوم، كونها المتنفس الوحيد لأولئك الصغار، اتخذوها مفرا اضطراريا من لفحات الشمس وجحيم البيوت الهشة المنتشرة هناك.يروي الحاج العربي، جد المرحوم “فاروق”، تفاصيل الحادثة الأليمة التي صدمت منطقة بني مناصر، فيقول إن الطفل تعود على محاكاة الحركات الرياضية وكان مولعا بتقليد هواة ألعاب القوى وبعض الرياضات القتالية، وكان يتسلل بمفرده إلى “الأرجوحة، لقضاء فترات الفراغ الصيفي، وذات يوم تأخر عن العودة إلى البيت، فهرعنا للبحث عنه في جميع العناصر المائية وعين “آذكار” التي يقصدها الأطفال في الصيف لتبليل أجسامهم تخفيفا لمتاعب الحر، غير أننا لم نعثر عليه”.لكن قبل عودتنا إلى القرية، سمعنا أترابه وهم يصيحون “فاروق وجدناه ميتا.. إنه مثبت تحت أغصان شجرة التين..”. يقول جده بأن شباب الحي انطلقوا بسرعة البرق إلى هناك فصدموا بجثة الطفل ورقبته ملفوفة بحبل، بينما كانت يداه ملتصقتين ببعض أثناء محاولته فك الحبل عن رقبته، حيث كان الالتفاف مشدودا بقوة خنقت الطفل الذي توفي وسط الغابة”.وبالقرية ذاتها، التفت حولنا مجموعة من الأطفال وأولياؤهم، فسردوا لنا معاناة لا متناهية، فهؤلاء البسطاء صمدوا أمام جميع المواجع النفسية والجسدية في منطقة تقع بأعالي البلدية بحوالي 10 كلم، وهي تطل من أعلى نقطة في الولاية على زرقة البحر البعيد بعشرات الكيلومترات، وتبقى رماله وأمواجه حلما لهؤلاء الأطفال الذين أقروا في شهادتهم بأنهم غير معنيين بالفسحة والاستجمام في فصل الصيف، نظرا للفاقة التي يتقاسمها الآلاف من أهالي المنطقة، حيث لا تقل رحلة الشخص الواحد عن 2000 دينار، وهي مبالغ يفضل الأولياء ادخارها لتحصيل لقمة العيش، لأن تكرار الرحلات يعني مضاعفة التكاليف.يكتفي ياسين، فريد، بلال ونصر الدين بقضاء فترات العطل في اللهو عبر أساليب بدائية وسط الأشجار والوديان، ومزاولة نشاطات صيد الطيور بالطرق التقليدية ومطاردة بعض الحيوانات البرية وسط مخاطر غير متناهية، ويجتهدون في ابتكار ألعاب تحاكي الطبيعة، لافتقادهم الفضاءات العصرية لتفريغ طاقاتهم.لؤي ابتلعته حفرةقبل عامين وبالتحديد في 17 مارس 2014، وجد الطفل لؤي ميتا داخل بركة مائية بالمدخل الرئيسي لملعب 8 ماي 45، الإهمال واضح والمسؤولية تقع على عاتق إدارة مركب 8 ماي 45، التي بدأت ورشة كبيرة لم تنته منها إلى حد كتابة هذه الأسطر، في حالة من التسيب والإهمال.الطفل لؤي هو أصغر إخوته الستة الذين يقطنون مسكنا وظيفيا بحكم أن والدهم العمري مرزوقي يعمل كحارس بمركب 8 ماي 45، وقد خرج مع شقيقه للعب في ساحة المركب، غير أن الحفرة التي لا تبعد سوى 20 مترا عن المنزل، والمغمورة بالمياه، لم يكن أحد يتصور أنها ستكون سبب وفاته.يروي الوالد تفاصيل الحادثة مؤكدا أن ابنه لؤي اختفى عن الأنظار في حوالي الرابعة زوالا، فشن حملة للبحث عن ولده في محيط المركب، غير أن تواصل اختفائه جعله يتصل بمصالح الأمن التي سارعت إلى إصدار مذكرة للبحث، ليتلقى في غمرة هذا كله مكالمة هاتفية من أحد أعوان الأمن والوقاية بالمركب، تخبره بالعثور على ابنه ميتا في إحدى البرك المائية التي لم تكن سوى مكان لصرف المياه، وظلت على حالها لمدة 21 شهرا، حسب تصريحات الوالد العمري.خلاطة إسمنت تطفئ شمعة إسلامفي حي بزيوش أكبر أحياء ولاية المدية، تعرض الطفل “إسلام. ب” ذو الـ10 سنوات لحادث مميت، السنة الماضية، عندما سقطت عليه خلاطة للإسمنت مهملة كان يلعب أمامها، اتخذها أبناء الحي لعبتهم المفضلة في غياب بديل آخر.وحتى أطفال الريف لم يسلموا من هذه الحوادث، فبسبب غياب المرافق الترفيهية ببلدية مزغنة لا يجد أبناؤها مكانا للتسلية في فصل الصيف غير البرك والوديان، وكان الطفل “أيمن. س” ذو 14 ربيعا، ابن مدينة تابلاط، آخر ضحية غدر لهذه المستنقعات في الصيف الماضي، فقد غرق داخل بركة مائية مساحتها 100 متر مربع بعمق ثلاثة أمتار تقع بفرقة الدراوشية بأعالي مزغنة.وفي حديث مع أحد أفراد عائلته، رفض الكشف عن هويته، يقول: “مررنا بأوقات صعبة، كل العائلة صدمت بوفاته، والحزن مازال يعتصر قلب والديه اللذين لم تجف دموعهما بعد”.. ويعود ليحكي تفاصيل ذلك اليوم المشؤوم، فيقول إن أيمن لم يخبر والديه بأنه ذاهب إلى تلك البركة التي تعود على الذهاب إليها رفقة أصدقائه، ولم ينتبها إلى بعض الأشياء التي أخذها معه، فخرج من البيت في الصباح كالعادة ولم يكن أحد يتوقع أنه لن يعود مجددا إلى بيته وأنهم سيفارقونه للأبد، لقد مات أيمن وترك غصة في قلب عائلته الصغيرة التي لم تتعود بعد على الغياب المرير لفلذة كبدها، ولا حتى أصدقاؤه في الإكمالية التي كان يزاول بها دراسته، الذين احتفظوا بمكان أيمن شاغرا، وكأنهم ينتظرون دخوله في أي لحظة.. ثم سرعان ما يستسلمون بأنه لن يعود، ويقول ابن عمه وزميله في الدراسة: “كان كله إصرارا على النجاح في الدراسة ولكن الأمل تبخر بالتحاقه بالرفيق الأعلى”.                 

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات