+ -

إنّ العدل من القيم الإنسانية الأساسية الّتي جاء بها الإسلام وشدّد في الالتزام به، وجعلها من مُقَوِّمَاتِ الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، حتّى أنّ القرآنُ جعل إقامةَ القسط -أي العدل- بين النّاس هو هدف الرسالات السّماوية كلّها، قال تعالى: ”لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْـمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ”، والمراد بالعدل: إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، إن خيرًا فخيرا، وإن شرًّا فشرّا، من غير تفرقة بين المستحقّين، ولأهمية العدل ومنزلته، بعث الله رسله وأنزل كتبه، لنشره بين الأنام. العدل ميزان الله على الأرض، به يُؤْخَذُ للضّعيف حَقُّه، ويُنْصَفُ المظلومُ ممّن ظلمه، ويُمَكَّن صاحب الحقِّ من الوصول إلى حَقِّه من أقرب الطّرق وأيسرها، وهو واحد من القيم الّتي انبثقت من عقيدة الإسلام في مجتمعه، فلجميع النّاس في مجتمع الإسلام حَقُّ العدالة وحقُّ الاطمئنان إليها. وبقدر ما أَمَرَ الإسلامُ بالعدل وحثَّ عليه، حَرَّمَ الظّلم أشدَّ التّحريم، وقاومه أشدَّ المقاومة، سواء ظُلْم النّفس أم ظُلْم الآخرين، وبخاصة ظُلْم الأقوياء للضّعفاء، وظُلْم الأغنياء للفقراء، وظُلْم الحُكَّام للمحكومين، وكلَّما اشتدَّ ضعف الإنسان كان ظلمه أشدَّ إثمًا. ففي الحديث القدسي: ”يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا”. والآيات الآمرة بالعدل في كتاب الله عامة تشمل العدل مع جميع النّاس، وفي جميع القضايا، بل إنّ الله تعالى أمر بالعدل في معاملة المخالفين، وإن كانوا لنا أعداءً، قال الله تعالى: ”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون”. وقد قرّر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في سنته مبدأ العدل، ودعا إليه، وذكر عاقبة أهله، ففي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ”إنّ المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرّحمن عزّ وجلّ، وكلتَا يديه يمين، الّذين يعدلون في حُكْمهم وأهليهم وما وُلُّوا”. يقول ابن حزم: ”أفضل نعم الله تعالى على المرء أن يطبعه على العدل وحبه، وعلى الحقّ وإيثاره”، وقال ابن تيمية: ”بالصّدق في كلّ الأخبار، والعدل في الإنشاء من الأقوال والأعمال تصلح جميع الأعمال، وهما قرينان كما قال الله تعالى: ”وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً”.والعدل هو قوام الدّنيا والدِّين، وسبب صلاح العباد والبلاد، به قامت السّموات والأرض، وتألفت به الضمائر والقلوب والتأمت به الأمم والشّعوب، وشمل به النّاس التّناصف والتّعاطف، وضمّهم به التّواصل والتّجانس، وارتفع به التقاطع والتّخالف. وعندما تختفي أنوار العدل عن البشر، يغشاهم الهرج والمرج، ويتفشى الظّلم بينهم بشكلٍ فظيع، حيث تجد القويّ يفتك بالضّعيف، والقادر يسلب حقّ العاجز، والغالب يُريق دم المغلوب، والرّاعي يهضم حقّ المرعى، والكبير يقهر الصّغير، ولا يخرجهم من هذا الوضع المشين، إلاّ ”العدل” سعادتهم وقاعدة أمنهم واستقرارهم.إذن العدل قيمة ضرورية في الإسلام، عمل الإسلام على إثباتها وإرسائها بين النّاس، حتّى ارتبطت بها جميع مناحي تشريعاته ونظمه، فلا يوجد نظام في الإسلام إلاّ وللعدل فيه مطلب، فهو مرتبط بنظام الإدارة والحكم والقضاء وأداء الشّهادة وكتابة العهود والمواثيق، بل إنّه مرتبط أيضًا بنظام الأسرة والتّربية، والاقتصاد والاجتماع والسّلوك والتّفكير إلى غير ذلك من أنظمة الإسلام المختلفة، وهذا يدلّ بوضوح على أنّ الإسلام ضمن قيمة العدل في جميع مجالات الحياة، بل إنّه ركّز كافة أهدافه على ضوئها، ممّا شهد له التاريخ على سلامة المجتمعات الّتي حكمها من الانهيار الخطير في الأخلاق، وأمَّنها من اضطراب الموازين والمعايير، وصانها من دمار النّفوس وخراب العمران. وينظر الإسلام للعدل على اعتبارات متعدّدة:العدل في السّلوك الفردي التّبادلي بين النّاس، فالمرء هنا مطالب بالعدل في تعاملاته، فلا يظلم ولا يغش، ”مَن غشّنا فليس منّا”، و«يعدل بين أولاده في العطية”، ويعدل بينهم حتّى في الرّحمة بهم وتقبيل الصّغار منهم، وليعدل في معاملة الأجراء والعاملين عنده..ومن أجمل صور العدل: أنّ يقوم المسلمُ بتطبيق العدل على نفسه، فيقرَّ بالخطأ، ويعتذرَ لمَن أساء إليه، ويسارع بالإحسان. قال تعالى: ”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ”.والعدل العام باعتبار الفرد جزء من المجتمع، فهو ههنا يهدف إلى مصلحة عامة عن طريق القيم العُليا كما في الحديث الصّحيح الشّريف: ”لو سَرَقَت فاطمة بنت محمّد لَقَطَعَ محمّد يدها”، وإنّ أولى النّاس بتطبيقِ العدل هم القُضاةُ لما لوظيفتهم من أثرٍ كبير في استرداد الحقوق لأصحابها وردِّ المظالم لأهلها.والعدل الموزّع من المجتمع للأفراد، فالدولة تقوم بتوزيع الحقوق والمنافع وهي ههنا تعدل بينهم فيما يستحقون وعلى اعتبار قدراتهم وإمكاناتهم..وقِيمُ العدل والمساواة عند تطبيقِها يتقدَّم المجتمع المسلم، ويسعَى إلى الرّخاء والنّموِ، ويستعيدُ الأمجاد القديمة، ويعودُ ليقودَ البشرية في نشر أُسُس الدّين الإسلامي وتطوير العلوم وإعمار الأرض امتثالاً لأمر الله تعالى، فالكلّ في دولة العدل يشعر بالسّكينة والأمان، فلا يَخشى من الظّلم والعدوان.فهذا هو العدل الّذي أمر به الله عزّ وجلّ في القرآن الكريم، وأمر به عباده على مرّ العصور والأزمان، وسار به رسولنا المصطفى صلّى الله عليه وسلّم والصّحابة والتّابعين وتابعيهم من بعده، عصرًا بعد عصر، فعَمّ خير الإسلام كلّ البلاد، وبه قويت دولة الإسلام العظمى، حتّى هابهم القاصي والدّاني.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات