يقدم العضو السابق بالمجلس الأعلى للقضاء، العضو الحالي بلجنة الشؤون القانونية، بالمجلس الشعبي الوطني، سعد بغيجة، في لقاء مع "الخبر"، قراءة قانونية للإجراءات التي اتخذها القضاء الفرنسي، ضد موظف بالقنصلية الجزائرية في فرنسا، مبرزا مواطن الخلل فيها، مقارنة بالرد الجزائري.
لوضع القارئ في الصورة، فرنسا تعاملت مع الموظف القنصلي بقوانين وطنية، بينما هناك اتفاقيات تنظم وضعيات هؤلاء الإطارات في حالات الاشتباه بهم أو تحريك الدعوى العمومية ضدهم.. كيف تفسر ذلك؟
من الناحية القانونية، وقبل أن نحكم على الإجراءات المتخذة ضد الموظف التابع للبعثة الجزائرية في الشارع، بأنه توقيف شرعي أو غير شرعي، لابد من معرفة صفته ومهامه وطبيعة الفعل الذي قام به، لأن عمال السفارة أو القنصلية يتمتعون بحصانة جزئية وظيفية أثناء ممارسة مهاهم، على أساس أن اتفاقية فيينا 1961 تتعلق بالحصانة الدبلوماسية للسفير والسفارة والأموال ووسائل الاتصال، بينما اتفاقية فيينا 1963 تهم العمل القنصلي، أي القنصل وأعوانه وموظفي القنصلية، ومنحت لهم الحصانة الوظيفية.
ما معنى الحصانة الوظيفية؟
يعني ذلك أن الأفعال التي يقوم بها القنصل وأعوانه وموظفو القنصلية، أثناء ممارستهم لمهامهم الإدارية والقنصلية، لصالح الدولة التي ينتمون إليها أو بمناسبتها، لا يجوز للدولة المعتمدين لديها، توقيفهم وفتح تحقيق ومتابعتهم، وبالتالي يتعين التمييز بين الشخص ووظيفته والفعل المنسوب إليه.
أفهم من حديثك، أنه إذا صدقت وثبتت الرواية الفرنسية بشأن الوقائع، ثمة إمكانية متابعة الموظف القنصلي، خاصة في حالة إثبات أن الأفعال المفترضة ليست ضمن المهام الرسمية المكلف بها والتي بُعث من أجلها؟
حتى ولو كان الفعل خارج العمل الوظيفي، تفرض الأعراف الدبلوماسية على فرنسا أن تعلن بأن الموظف "شخص غير مرغوب فيه"، ويُطرد من ترابها، مثلما فعلت الجزائر، خاصة أن الفعل المشار إليه إعلاميا، لم يرتكب وليس هناك دليل دامغ على حدوثه، وكل ما في الأمر أن هناك شخصا يدعي، ومن هنا كان على فرنسا أن تحتاط وتبلّغ السلطات الجزائرية، ولا تتسرع في التوقيف والمتابعة، لأن الأصل في الشخص الحرية، والاستثناء هو تقييد الحرية، بأمر أو بحكم قضائي. وبالتالي، ما قامت به فرنسا مخالف للأعراف الدبلوماسية.
بالنسبة للجزائر، فقد اتخذت إجراءات دبلوماسية ضد 12 عضوا من البعثة الدبلوماسية الفرنسية بالجزائر ولم توجه لهم اتهامات، رغم ما قامت به السفارة والسفراء من قبل من خروقات وتم الإعلان عنها في وقتها.
هناك من يقول إن النائب العام في فرنسا قد يتذرع بقانون الإرهاب، على سبيل المثال، على أساس أنه استثناء ولا تشمله اتفاقيات فيينا، هل يصح ذلك من الناحية القانونية، علما أنه من المعروف نظريا أن الاتفاقية أو المعاهدة أسمى من القوانين الوطنية للدول؟
كلمة إرهاب كلمة مطاطة وفضفاضة يلجأ إليها من يفتقد الحجة كثيرا، وقبل توجيه التهمة يتعين إثبات أن "الفعل" موجود، فنحن ننازع في قيام "الفعل" من عدم قيامه، وليس في التهمة التي تُرمى على الشخص جزافا، فالطرف الفرنسي يقول ما يريد، لكن القانون يتطلب منه إثبات الفعل المنسوب إلى الشخص، ثم تقييد حريته.
إذن، أمام عدم الإثبات، ومخالفة إجراءات المتابعة، وعدم إشعار الدولة التي ينتمي إليها المعني، التي تنص عليها اتفاقية القناصلة في 1963، يعتبر ما قام به القضاء الفرنسي، إجراء غير قانوني.
أما بخصوص سمو الاتفاقية، مقارنة بالقوانين الوطنية، فإن ما تقوله صحيح، وهو التدرج في القوانين، لكن المشكل لا يطرح في هذه القضية، لأن الاتفاقية تتطلب إثبات الفعل المنسوب إلى الموظف، قبل أن نقول: تطبق الاتفاقية أو لا تطبق.
غير أنه من الناحية الإجرائية، فنحن أمام إجراءات قضائية، وفي المستقبل نثبت إذا كانت الأفعال تخضع للاتفاقية أو تخضع للقانون الوطني الفرنسي.
ما هو الإجراء القانوني السليم، الذي كان من المفترض اتخاذه في حالات الاشتباه بتورط عضو من أعضاء البعثة الدبلوماسية، في أفعال منصوص عليها قانونا في الدولة المعتمد لديها؟
هو احترام الاتفاقية، بإخطار الدولة، التي ينتمي إليها الموظف، بالواقعة، إن كانت ثابتة ألقي عليه القبض خارج وظيفته، وإن لم تكن ثابتة كان عليها أن تعلنه شخصا غير مرغوب فيه.
ما هي المخارج الممكنة قانونيا لهذه الوضعية؟
حاليا، أرى أن هناك طريقين:
الأول المسار القضائي الذي يسلكه المحامون أمام القضاء الفرنسي، طبقا لقانون الإجراءات الجزائية الفرنسية.
أما الطريق الثاني، فهو المسار الدبلوماسي، لأنه من المحتمل أن تكون الوقائع شكلا من أشكال المساومة، مقابل توقيف السلطات الجزائرية بوعلام صنصال ومتابعته وإدانته، من قبل السلطات القضائية، والذي يشهد مطالب مُلحة بالإفراج عنه. ربما هدفهم من ذلك المقايضة بين الرجلين، لكن شتان بين الحالتين، فصنصال، له أصل جزائري، اكتسب الجنسية الفرنسية حديثا، وقام بأفعال تمس بالسيادة الوطنية وغيرها.
تقصد أنه تم "تسييس" قضية الموظف القنصلي، وإخراجها عن إطارها الدبلوماسي، واستعمالها لإجهاض مسار الانفراج الذي بدأ يتشكل بين البلدين، وتجلى في الاتصال الهاتفي بين الرئيسين، تبون وماكرون، وما ترتب عنه؟
الرئيسان تبون وماكرون، لهما عوامل مشتركة لحل الإشكال القائم بين البلدين في جميع الميادين، كون المواضيع حساسة، لكن للأسف، فرنسا تعاني من صراع بين التكتلات وبين الأحزاب السياسية، وبين قوى الضغط التي تصارع من أجل عدم إتمام مشروع المصالحة، والبحث في الذاكرة واسترجاع الأرشيف وغيرها من الورشات والملفات.
إذن، القضية تعتبر واحدة من تمظهرات الصراع السياسي الموجود في فرنسا.. لكن يقال إن القضاء في فرنسا يتمتع باستقلالية كاملة ومفصول عن السياسة؟
نسبيا، وهناك الكثير من القضايا مرت ولم يكن فيها القضاء الفرنسي مستقلا، ومن بينها قضية المناضل الفلسطيني جورج حبش، وإن كنت موافقا على القرار، عندما ألقي عليه القبض في باريس، ولكن القرار السياسي سمح بإخراجه رغم أحكام القضاء.
هل لاتفاقية التعاون القضائي المبرمة سنة 2021، دور في هذه القضية؟
هذه الاتفاقية تعود إلى 1963، وتشمل كل مناحي التعاون القضائي بعد المراقبة القضائية طبعا، لكن فرنسا لم تتمكن من تطبيق بنودها، بدليل أنه لدينا العشرات من الإنابات القضائية لمختلسي الأموال العمومية.
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال