كنت مع أحد الإخوة الأفاضل من الأئمة بالعاصمة نتحدّث عن أحداث غزة الشهيدة، فعرّج على الخرافة التي تقول: إن سيدي بومدين رحمه الله جاهد مع القائد البطل صلاح الدين رحمه الله وقطعت يده ودفنت هنالك، فنحن الجزائريين لنا حقّ هناك بسبب هذا الأمر، فقلت له: هذه خرافة مكذوبة ذكرها بعض الأفاضل ولا أدري من أين جاء بها؟، وأشاعها كثير من الوعّاظ جهلا دون تحقّق، فاستغرب الأمر لشيوعها وذيوعها وكثرة تردادها، فلما بيّنت له أن كثرة ترددها على ألسنة الوعاظ لا يعني شيئا، فأكثر الأحاديث الموضوعة هي منتشرة على ألسنة الناس والوعاظ، وذلك لا يفيدها صحة وثبوتا.
فقال لي: حتى وإن كانت خرافة؛ لنتركها تنتشر فهي تؤثّر في العوام، فقلت له: إن الحق لا ينصر بالباطل، وإن الحق في غنى عن الباطل، وإذا صرنا مثل عدونا نؤسس حقنا على الأساطير والخرافات، فما الفرق بيننا وبينهم؟ لقد كتب المفكر الكبير رجاء غارودي رحمه الله كتابه ((الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية)) وهو صادق محق، وحوكم بسبب ذلك كما هو مشهور بتهمة العداء للسامية، فهل تريد أن نؤسس حقنا في فلسطين على الأساطير والخرافات، رغم أن حقنا فيها ثابت قرآنا وسنة وتاريخا وواقعا؟!.
نعم، إن ما يردده الكثير من العوام من قصة يد سيدي بومدين رحمه الله تعالى المقطوعة المدفونة في فلسطين قصة مختلقة من محض الخيال، ولم تثبت تاريخيا، فلم يذكر من ترجم له ممن هو قريب عهد به ومن أهل التحقيق شيئا من ذلك، كالإمام ابن الزيات التادلي في كتابه ((التشوف إلى رجال التصوف))، وكالإمام ابن الأبار في كتابه ((التكملة))، وكذا الإمام الذهبي في كتبه المشهورة، وغيرهم، وحتى من أرخوا لجهاد صلاح الدين، وكتبوا عن معاركه وخاصة حطين لم يذكروا شيئا عن مشاركة سيدي بومدين معه!، ولو ذكر ذلك في أي مرجع لذكروه. ثم يأتي القرن العشرون والواحد والعشرون فيخترع القصاص هذه الخرافة وتنتشر لعدم تحققهم، والعجيب أن كثيرا ممن يروي هذه الخرافة ويرددها حين تباحثه وتفاتشه تجده لا يعرف شيئا عن سيدي بومدين!، ولم يقرأ شيئا مما كتب، ويصارحك أنه لم يقرأ شيئا مما كُتب عنه أبدا!، ثم يجادلك في هذه الخرافة.
إن ما يفعله الوعاظ والقصاص ومثيرو العواطف من تكرار هذه القصة، وإقناع الجزائريين بأن لنا حقا في فلسطين لأن يد سيدي بومدين رحمه الله مدفونة هنالك شبيه بما يفعله الصهاينة من ادعاء حق لهم في فلسطين لأن جدا لهم سكن فيها قبل آلاف السنين. وحتى الوقف الذي يسمى وقف سيدي بومدين هو ليس وقف الإمام الكبير بل وقف حفيده، كل ما هنالك أن حفيده سُمي باسمه وكنّي بكنيته فهو –أي الحفيد صاحب الوقف- أبو مدين شعيب بن الحسين بن سيدي بومدين فاختلط الأمر على بعضهم، وظنّ الوقف للإمام الشهير، وشاع الأمر عند القصاص والوعاظ دون تمحيص. وأوكد أن علاقتنا بفلسطين هي أعظم من يد كائنا من كان، ولو كان في جلالة ومكانة سيدي بومدين، كيف والقصة مخترعة؟!. ذلك أن علاقتنا بفلسطين هي علاقة عقدية إيمانية قرآنية، ترتكز أساسا على آيات القرآن الحكيم، الذي كرر وصف فلسطين والشام بالبركة: {وأَورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها}، {ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين}، {ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين}، {وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظٰهرة وقدّرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما ءامنين}، {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله لنريه من ءاياتنا إنه هو السميع البصير}، هذا هو رباطنا بفلسطين وغزة والأقصى المبارك: عقيدة ووحي يُتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وليس قصة مخترعة مكذوبة، بل حتى لو كانت صحيحة -وهي باطلة بلا شك- فهل يترك عاقل آيات القرآن العظيم، ويحاول أن يقنع الناس بقصة يد مدفونة هناك؟!. إن هذه الجزئية تظهر مدى تهلهل الخطاب الديني، ومدى الضعف والخلل واختلال الأولويات والموازين الذي اعتراه.
وأوكد أخيرا أن كون هذه القصة مخترعة باطلة لا يقلّل أبدا من مقام ومكانة سيدي بومدين رحمه الله، والتي أجزم أن كثيرا من الجزائريين –وكثير من هؤلاء الوعاظ الذين يكررون هذه الخرافة- لا يعرفون مقامه ومكانته حق المعرفة، ويكفي في هذه العجالة أن أثبت ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيه؛ لأنه ممن انتقد الطرقية والصوفية كثيرا كما هو معلوم؛ ولأنه لو ذكرنا ثناء الأئمة الآخرين عليه لقال المبطلون هم صوفية مثله، قال الإمام ابن تيمية: “مشايخ الإسلام وأئمة الهدى الذين جعل الله تعالى لهم لسان صدق في الأمة مثل: سعيد بن المسيب والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس والأوزاعي وإبراهيم بن أدهم وسفيان الثوري والفضيل بن عياض ومعروف الكرخي والشافعي وأبي سليمان وأحمد بن حنبل.. إلى مثل الشيخ عبد القادر الكيلاني والشيخ عدي والشيخ أبي البيان والشيخ أبي مدين..”، [مجموع الفتاوى، ج2 ص474]، فانظر كيف جعله من مشايخ الإسلام وأئمة الهدى الذين جعل الله تعالى لهم لسان صدق في الأمة؟ وانظر مع من ذكره من الأئمة العظام تدرك مقام سيدي بومدين عند الإمام وعند كل علماء الإسلام. رحم الله سيدي بومدين وأعلى مقامه في العارفين الصالحين العاملين.
*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
الخبر
16/04/2025 - 22:57

الخبر
16/04/2025 - 22:57
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال