لا نختلف أن التغيير الذي يحقق المرجو منه، ويثبت أثره ويستمر، هو التغيير الذي يغير الإنسان، الذي يبدأ من الإنسان، الذي يظهر أثره أول ما يظهر وأكثر ما يظهر في الإنسان، في قيمه، وفي تفكيره، وفي سلوكه وخلقه، وهذا بعض ما يقصد من صيام رمضان، فالله عز وجل جعل صيام هذا الشهر ناقلا للمسلم من حاله إلى حال المتقين، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}.
وأشار النبي صلّى الله عليه وسلم إلى أن المقصود من صيام شهر رمضان أن يخرج منه المسلم بحال غير الحال التي دخل بها هذا الشهر، حيث جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قوله عليه السلام: “.. ورَغِم أنفُ رجلٍ دخل عليه رمضان فانْسَلَخ قبل أن يُغفرَ له”، رواه أحمد وغيره. فمما يشير إليه الحديث من معاني أن الصائم الذي يحسن اغتنام هذا الشهر من المفروض أن يظفر بالمغفرة، ومعنى هذا أنه سيخرج من رمضان بغير الحال التي دخله بها. وهذا هو التغير المقصود هنا، بل هذا هو أعظم تغير يتحقق للإنسان؛ لأنه تغير يرضي الله عنه ويزيده قربا منه.
إن رمضان حقا فرصة متجددة لكل مسلم كي يتغير إلى الأحسن، على كافة الصعد، وخاصة في علاقته مع ربه وعلاقته مع الناس. وذلك للعوامل المساعدة للمرء على نفسه المتوافرة في رمضان، والتي منها ما يأتي:
الجو العام لرمضان، حيث نجد عامة المسلمين مقبلين على ربهم، مقبلين على القرآن تلاوة وتدبرا، مقبلين على المساجد، مقبلين على فعل الخير. ونحن نعلم أنه كان من الممكن أن يفرض الصيام ثلاثين يوما على كل مسلم يختار تحديدها لنفسه بنفسه، فمن صام ثلاثين يوما لوحده يكون محققا للركن قائما بعبادة الصيام، ولكن من حكمة الله البالغة أن فرض على كل المسلمين صيام شهر واحد يصومونه جميعا مع بعض؛ ليعيشوا هذا الجو العام الذي ذكرناه، والذي يسهّل على المرء تحمّل المشاق.
تصفيد الشياطين، كما جاء في الحديث: “إذا جاء رمضان فتحت أبواب السماء وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين”. رواه مسلم وغيره. ومعنى صفدت الشياطين: غُلّت وقُيِّدت. والصفد: الغل، وذلك لئلا تفسد الشياطين على الصائمين. والمعنى أن الصائم قد أعين على ترك المعصية وتغيير نفسه بكبح جماح الشياطين.
لكن قد يقول قائل: إننا نرى الشرور والمعاصي تقع في رمضان كثيرا؛ فمادامت الشياطين مصفدة لماذا يقع العصيان والشر؟. وقد أجاب السادة العلماء عن هذا من أوجه: أحدها: إنما تغلّ عن الصائمين حقا وصدقا، الذين صاموا الصوم الذي حُوفظ على شروطه، ورُوعيت آدابه، أما ما لم يحافظ عليه فلا يغلّ عن فاعله الشيطان. والثاني: إن قلنا إنها صفّدت عن كل صائم، فلا يلزم من تصفيد جميع الشياطين، ألا يقع شر ومعصية؛ لأن لوقوع الشر والعصيان أسبابا أخر غير الشياطين؛ وهي: النفوس الخبيثة، والعادات الركيكة، والشياطين من الناس. والثالث: أن يكون هذا الإخبار عن نوع خاص من الشياطين، وهم المردة منهم، وأما من ليس من المردة فقد لا يصفّد. والمقصود الظاهر من الحديث أن الشرور والمعاصي تقل وتتضاءل، وهذا موجود في شهر رمضان؛ لأن من المشاهد المعيش أن وقوع الشرور والفواحش فيه قليل بالنسبة إلى غيره من الشهور.
إن أغلب سلبيات الإنسان ونقائصه والمعاصي التي يقع فيها ويصعب عليه التغلب عليها وتركها، ما كان عادة له، أو تحول إلى عادة له، أو جره إلى حضيضها عادة مستحكمة له، وصيام رمضان بتغييره لمألوف الإنسان من عادات الطعام وعادات النوم، وهي من أكثر العادات تحكما وتأثيرا في سلوك الإنسان وتصرفاته، يساعد الإنسان على التحرر من سلطان العادة وتقوية إرادته وعزمه.
إن الصبر هو الخلق الأساسي للقيام بأي عمل ذي بال، وتحقيق أي إنجاز. فمن لا صبر له لا يمكنه أن ينجح في أي عمل يقوم به من أمور الدين والدنيا. وطبعا لا يمكن أن يحقق التغيير في نفسه أو في واقعه إلا من كان ذا صبر. وعبادة الصوم قائمة أساسا على الصبر؛ ولهذا سمي شهر رمضان شهر الصبر، عن أبي هريرة، قال: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «صوم شهر الصبر، وثلاثة أيام من كل شهر، صوم الدهر» رواه أحمد وغيره.
شهر رمضان هو شهر البركات: بركة الوقت، بركة الرزق، بركة الجسد، بركة المشاعر الإيمانية، وهو شهر النفحات الربانية التي تبارك في نية المؤمن وعمله، فمن نوى تغيير نفسه وواقعه للأحسن، وعمل في سبيل ذلك في هذا الشهر بارك الله جهده ووفقه لتحقيق قصده. فمن لم يتغير في رمضان متى يتغير؟!
*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
الخبر
19/02/2025 - 23:38

الخبر
19/02/2025 - 23:38
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال