+ -

 إقامة لهذا الجانب، منع الإسلام تجدد العبودية، وذلك بقطع السبل المؤدية إليها، ورفع أسبابها. وبناء عليه، أبطلت الشريعة أسبابا عديدة من أسباب الاسترقاق، نسوق منها على سبيل المثال ما يأتي: الاسترقاق الاختياري، وهو أن يبيع الإنسان نفسه أو يبيع رب العائلة أحد أفرادها، والاسترقاق بسبب الجناية، وذلك بأن يحكم على الجاني ببقائه عبدا للمجني عليه، واسترقاق السائبة، كما استرقت السيارة يوسف عليه السلام.

لم يقتصر الإسلام في حفظ الحرية من هذا الجانب على الناحية المادية للإنسان، بل امتد عمله إلى عمقه الروحي بأن جعل الحرية أصلا في اعتقاده، حيث منع إكراه الناس على الإسلام، قال تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم} البقرة:256، وهي قاعدة كبرى من قواعد دين الإسلام، وركن عظيم من أركان سياسته، فهو لا يجيز إكراه أحد على الدخول فيه، ولا يسمح لأحد أن يكره أحدا من أهله على الخروج منه، وفي سلم هذه المعاني تندرج آيات عديدة، حيث قال تعالى: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} يونس:99. إن هذه الآيات صريحة في نفي الإكراه عن الدين؛ لأن القرآن العظيم دأب على حث الناس أن يؤمنوا بطريق التدبر والتفكر والتأمل والنظر، وهذه المعاني لا تجتمع وطريق التهديد والوعيد والرهبة والخوف التي يقتضيها الإكراه، فالإيمان لابد أن يكون بمحض الاختيار ولا سبيل للإكراه فيه.

وبناء عليه، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجوز الإكراه على الإسلام إذا كان المكره ذميا أو مستأمنا، فهذا “كتابه صلّى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار واليهود” بعد هجرته إلى المدينة: “لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم”، وجاء أيضا في كتابه إلى ملوك حِمير: “وإنه من أسلم من يهودي أو نصراني فإنه من المؤمنين، له ما لهم وعليه ما عليهم. ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يُردُّ عنها وعليه الجزية...”، وجاء في كتابه صلّى الله عليه وسلم إلى أساقفة نجران: “بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد النبي إلى الأسقف أبي الحارث، وأساقفة نجران، وكهنتهم، ومن تبعهم، ورهبانهم: إن لهم ما تحت أيديهم، من قليل وكثير من بِيَعهم وصلواتهم ورهبانيتهم، وجوار الله ورسوله. لا يُغَيَّر أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته. ولا يغير حق من حقوقهم ولا سلطانهم، ولا شيء مما كانوا عليه. على ذلك جوار الله ورسوله أبدا ما نصحوا واصطلحوا فيما عليهم، غير مثقَلين بظلم ولا ظالمين”.

ولقد نقلت لنا السيرة النبوية المطهرة مواقف وأحداث يندر وقوعها في تاريخ الإنسانية، بل قد لا يتصور كثير منا الآن حدوثها في ديارنا الإسلامية، ألا وهي صلاة وفد نجران في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم نحو المشرق وقد كانت بحضرته وبين أصحابه المؤمنين الذين هموا بمنعها لولا كلمة خرجت من الرسول صلّى الله عليه وسلم: “دعوهم”، لأنهم أتباع دين، وضيـف رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وضيف المسلمين، ولا معبد لهم في المدينة، وقد قال ابن القيم في فقه هذه القصة كلاما راقيا: “تمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين وفي مساجدهم أيضا إذا كان عارضا، ولا يُمكّنون من اعتياد ذلك”.

وفي سلم هذا الفقه العالي تدرّج خلفاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وتمرّنوا على ممارسته، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب معاهدته إلى أهل بيت المقدس، وقد جاء فيه ما نصه: “بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عمر أمير المؤمنين أهل إيليا من الأمان: أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، إنه لا تُسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيّزها، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم ولا يضار أحدٌ منهم، ولا يسكن بإيليا معهم أحد من اليهود...”.

وذهب الإمام الشافعي إلى أنه إذا أسلم أحد الزوجين، لا يجوز عرض الإسلام على الآخر، وعلل الشافعي ذلك بقوله: “إن في هذا العرض تعرضا لهم، وقد ضمنا بعقد الذمة أن لا نستعرض لهم”، والمقصود من هذا الكلام هو عدم المس بحرية اختيارهم، فالشريعة بهذا لا توفر الحرية للمسلمين فحسب؛ بل الذين يعيشون تحت مظلة الإسلام وهم غير مسلمين، يتمتعون بالحق نفسه.
*رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر