38serv

+ -

قال الشاطبي: “وأعني بالمال ما يقع عليه الملك، ويستبد به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه، ويستوي في ذلك الطعام والشراب واللباس على اختلافها، وما يؤدي إليها من جميع المتمولات”.
وبهذا فالمال ثمرة السعي المشروع للإنسان، وباعث نشاطه الحيوي، فهو بمنزلة الجهد المجد له، فكان بذلك قوام حياته الفردية، وسبب قوته التي هو جزء منها، والمال في أيدي الآحاد ليس ملكية خالصة لهم، وذلك لتعلق حق الأمة به، وهو حق الله في أموالهم، ومن هنا وجبت المحافظة عليه، وذلك يحصل بما يلي:

حفظه من جانب الوجود
إن المعاملات المندرجة ضمن أبواب الفقه راجعة إلى حفظ المال من هذا الجانب، فشرع أصل البيع وحرم الربا، وأبطل وجه التماثل بينهما الذي ادعاه اليهود قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} البقرة:٢٧٥، كما يتم حفظه بسماح ملكية الأفراد له، والاستئثار به على الوجه المشروع، وتداوله بينهم، قال الإمام الشاطبي: “حفظ المال راجع إلى مراعاة دخوله في الأملاك”، ومن هذا القبيل أيضا تنميته بالاستثمار، حتى لا يفنى، ويتم هذا بتيسير سبل التعامل وتنظيمها بين الناس، وذلك على أساس من العدل والرضا، كما يجب مراعاة توزيعه بالعدل والقسطاس المستقيم، وهذا يستدعي وضعه في أياد تصونه وتحفظ حق الأمة والأفراد فيه، قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} النساء:٥، ويدخل في هذا الجانب أيضا واجب ولي الأمر في تنمية الموارد العامة، وحماية إنتاج المنتجين من الضياع أو الانخرام؛ لأنه مسؤول على حفظه من جهة ولايته.

حفظه من جانب العدم
ولإقامة هذا الجانب أوجبت الشريعة حد السرقة - قطع يد السارق - لمن استوفي شروط ذلك، والزجر لمن كان دونها، قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} المائدة:٣٨، ومن هذا القبيل ضمان قيم المتلفات، وتحقيقا لمقصد حفظ الأموال قال الفقهاء: بتضمين الصناع لما تحت أيديهم، كما منع الغرر وبيع المجهول وأمثالها، قال الإمام المقري: “من مقاصد الشريعة صون الأموال عن الناس، فمن ثم نهى عن إضاعتها، وعن بيع الغرر والمجهول”.

ومن طرق حفظ الأموال في هذا الجانب عدم ملكية الإنسان لإتلاف ماله عبثا؛ لأن هذا المال الممنوح له من قبل الشارع تمليك لأجل أداء الإنسان وظيفته الاجتماعية تحقيقا لمبدأ التكافل الاجتماعي، وفي هذا الباب حرم الإسراف والتقتير، لما يفضيان إليه من ضياع في الحقوق، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} الفرقان:٦٧، وقال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} الإسراء:٢٩، كما حرمت الشريعة الاكتناز؛ لأنه منع للآخرين من الاتصال بحقوقهم المتعلقة بذمة الكانزين، مما يؤدى إلى عدم تداول المال ونموه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} التوبة:٣٤، ومن ذلك أيضا تحقيق شرعية المسالك التي يستجلب المال من خلالها؛ لأن حرمة تلك المسالك تفضي إلى حرمة المال المستجلب، وهذا يعني عدم جواز التعامل به، ولا التعامل مع حامله، وهذا يؤدي بدوره إلى تعطيل جزء كبير من الأموال من الرواج والتداول، ولهذا السبب حسمت الشريعة جميع المواد المتعلقة بذلك، كأكل أموال الناس بالباطل، أو ظلما وعدوانا، ومن هذا القبيل خروج أموال الأمة إلى غيرها من غير عوض أو فائدة مطلوبة من ورائها لصالح أفرادها، والله أعلم.