الإنسان في أصله حريص على نيل الخير، ودرك الفلاح، والحصول على المنافع، وحريص على أن يعامله الناس معاملة حسنة، وأن يحترموه، وأن يقدروه، وأن لا يؤذوه، وأن لا يزعجوه، وحريص على أن يعامله الناس بصدق ومودة ونزاهة ونصيحة... هذه أمور يحرص عليها كل واحد منا ولا ضير في ذلك.
والأمر إلى هنا طبيعي عادي، بيد أن غير الطبيعي وغير العادي حين يتحول أحدنا إلى الضفة الأخرى، أي حين يعامل هو الناس، وهنا تظهر الأثرة (والأنانية) وحب الذات، بل عبادة الذات في كثير من الأحيان!. فما كان يزعجه من الآخرين يصبح من اللازم عليهم الصبر عليه!، وما كان يؤذيه من الآخرين يصبح غير مؤذ منه!، وما كان سوء معاملة من الآخرين يصبح معاملة عادية منه!، وما كان قلة احترام من الآخرين يصبح احترام وفوق الاحترام منه!، وما كان سوء خُلق من الآخرين يصبح تصرفا مقبولا منه!، وما كان منهم أمرا يتطلب اعتذار يصبح معه طلب الاعتذار تطاولا واعتداء!... وهكذا.
وأحسب أن هذا التقلب نعيشه يوميا، ونعاين أحداثا متكررة لهذه الظاهرة في الأمور الصغيرة والأمور الكبيرة على حد سواء. فكم رأينا وسمعنا من يسب أولاد الجيران، ويسب أباءهم وأمهاتِهم، ويسب أصلهم وفصلهم، بل يسب الشعب الجزائري كله بقلة التربية أو انعدامها؛ لمجرد شغب يقوم به بعض أبناء الجيران، فإن كان المشاغب ابنه واشتكى الجيران من شدة الإيذاء الذي تسبب لهم به، نجده يثور عليهم ويقول: إنهم أطفال صغار!. وكم رأينا من يثور لتصرف بعض المارة أو بعض سائقي السيارات في الشوارع، ويتفنن في كيل السباب والشتائم، ثم نراه بعد دقائق يتصرف نفس التصرفات لتحقيق بعض المصالح الصغيرة وبعض المنافع الخسيسة!. وكم رأينا من يريد من زوجته (والعكس) ومن أبنائه ومن أحبابه ومن جيرانه ومن الناس جميعا أن يحترموه وأن يطيعوه، وأن يحسنوا معاملته، ولكنه يظلم زوجته، ويقصر في حق أولاده، ويسيء لأحبابه، ويؤذي جيرانه!. إلى غير ذلك من مظاهر الأثرة والأنانية.
وقد وضع النبي صلّى الله عليه وسلم قاعدة إيمانية لو تذكّرها الناس، وتمسكوا بفحواها، واتخذوها منهاجا؛ لقلّلت من هذه الظاهرة، وقلّلت ضرورة من المشاكل الناجمة عنها، هذا القانون الإيماني هو الحديث الشريف الذي يرويه أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» رواه البخاري ومسلم. ورواه النسائي بلفظ: «والذى نفس محمد بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير»، ومعنى الحديث: لا يؤمن الإيمان التام، وإلا فأصل الإيمان حاصل وإن لم يكن بهذه الصفة. والمراد: يحب لأخيه من الخير كما سلف في رواية النسائي، أو معناه: لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه في الإسلام ما يحب لنفسه. أي لا يتم إيمانه حتى يكون بهذه الصفة للمؤمنين، من كفه الأذى عنهم، وبذله المعروف لهم، ومودته الخير لجميعهم، وصرف الضر عنهم. وذلك أن مراد الله من العباد أن يكونوا كالنفس الواحدة، وأن يتحابوا، ويريد كل واحد للآخر الخير الديني والدنيوي.
يقول الشيخ محمد عبد العزيز الخولي رحمه الله: “آية الإيمان الحق أن يرى الفرد نفسه عضوا في المجتمع، نفعه نفع لنفسه، وضره إضرار بها، فإذا أحس هذا الإحساس الصادق، وانطبع في نفسه رأى غيره كنفسه، بل رآه نفسه، فيحب له مثل ما يحب لنفسه، يحب لنفسه علما واسعا، وخُلقا طيبا، وعملا صالحا، ومكانا عاليا، وشرفا ساميا، يحب لها بيتا جميلا؛ ومالا غزيرا، وضياعا واسعة، وزوجا صالحة، وبنين شهودا، وركوبا ذلولا، وأقرباء مخلصين، وإخوانا صالحين، وخدما طائعين! فليحب لأخيه ابن أخيه -دنا أو علا- كل ذلك، أما أن يحب لنفسه أمرا ولا يحبه لغيره، ويحسده أو يحقد عليه إن ناله فذلك مناف للإيمان، بل ذلك بقية من آثار الكفران، وكما يحب لغيره ما يحب لنفسه يبغض له ما يبغض لها، يبغض الفقر والذل، والاستعباد والانحطاط، والبلاء في المال أو النفس أو الأولاد، وغير ذلك من الأمور المكروهة، فليبغض لأخيه ما يبغض لنفسه وفاء بحق الإيمان”.
إنه قانون (بسيط) واضح خفيف: عامل الناس كما تحب أن يعاملوك، تمنى للناس ما تتمنى لنفسك، افرح لهم كما تحب أن يفرحوا لك، اجتنب ما تكره من الناس خلقا وسلوكا وتصرفا... قانون (بسيط) ولكن نتائجه كبيرة لو التزمناه، واهتدينا بهديه.
*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة