ما من أحد منا في هذه الحياة إلا وله أمان كثيرة وأحلام عديدة يسعى إلى تحقيقها، وهذه الأماني والأحلام تتفاوت بحسب أحوال الناس، فلو سألت الفقير الذي ينهشه الفقر بأنيابه، ويقف الجوع على بابه، لقال: أتمنى الغنى ليزول عني شبح الفقر الذي قصم ظهري، ولو سألت من يعيش بلا مسكن لرأيته يحلم بعُشٍّ يأويه، ومسكن يواريه، خاصة وهو يرى من حوله يبني الدور والقصور، وهو في مسكن أقرب إلى القبور. ولو سألت كل مصاب دق للعلاج كل باب، منعته الأوجاع والآلام من لذة الطعام والمنام، لوجدته يتمنى أن يعافى في بدنه، ويشفى من مرضه.
ولكن هناك فئة من الناس لا يمكنهم تحقيق أمنياتهم، ولا يُنظر في طلباتهم، ترى من هؤلاء؟ وما سر رفض مطالبهم؟ إنهم أناس كانوا يعيشون بين الورى، واليوم قد صاروا تحت الثرى، أقوام كانوا معنا في هذا الوجود، واليوم صاروا من أهل اللحود، انقطع عنا خبرهم، واندرس ذكرهم، قد اختلفت نداءاتهم، وتعددت أمنياتهم، وتنوعت مطالبهم، صحيح أننا لا نسمع نداءاتهم وأمنياتهم، ولكن الله تعالى ذكر لنا بعضها. وهم فريقان: فريق سعيد وفريق شقي.
أما السعداء الصالحون، فقد ذكر لنا المعصوم بعضا من أمنياتهم، فأولها تكون بعد موتهم، يوم يُحملون على الأعناق، ويقال: إلى ربك يومئذ المساق، فينادون ولا يُسمعون، يتمنون أن يسرع بهم إلى قبورهم ليلقوا النعيم المقيم، ليرتاحوا من دار الشقاء: “إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين يذهبون بها، يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان”.
أما أمنيتهم الثانية فهي إذا وضعوا في الحافرة، وبشرهم ربهم بالجنة، ورأوا منازلهم فيها، تمنوا حينها أن تقوم الساعة، فعند أحمد من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه: “... أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويُفسح له في قبره مد بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة”. وأما الأمنية الثالثة فأمنية الشهيد، فبالرغم من عظم منزلته، فإنه يتمنى أن يعود إلى الدنيا ليقاتل ويُقتل، لما يرى من ثواب الجهاد عند رب العباد: “ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة”.
وأما أهل الشقاء والتعاسة، فمن أمنياتهم الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا، ولكن هيهات: {حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت، كلا إنها كلمة هو قائلها}. وقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوما بين المقابر فقال: “السلام عليكم يا أهل المقابر، أما أموالكم فقد قسمت، وأما بيوتكم فقد سكنت، وأما أزواجكم فقد تزوجن غيركم، هذا خبر ما عندنا، فما خبر ما عندكم؟ ثم سكت قليلا والتفت إلى من كان معه، وقال: أما والله لو شاء الله لهم أن يتكلموا لقالوا: إن خير الزاد التقوى”.
ومن أمانيهم بعد أن يوضعوا في قبورهم ألا تقوم الساعة، ففي حديث البراء السالف الذكر بعد أن ذكر سؤال الملكين وعجزه عن الجواب، “فينادي مناد من السماء: أن كذب فأفرشوا له من النار، وافتحوا له بابا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة”. ومن أمنياتهم الصلاة ولو ركعتين، مر صلى الله عليه وسلم بقبر فقال: “من صاحب هذا القبر؟ فقالوا: فلان، فقال: ركعتان أحب إلى هذا من بقية دنياكم”.
ومن أمنياتهم الصدقة: {وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين}، لقد اقتنعوا بعد فوات الأوان أن المال غير نافعهم الآن. ورد عن بعض الحكماء قولهم: لا يزال يعظكم ناطق وصامت، أما الناطق فالقرآن، وأما الصامت فالموت.
إمام مسجد عمر بن الخطاب - بن غازي - براقي
إماممسجدعمربنالخطاب - بنغازي - براقي