إسماعيل هنية.. قائد من فولاذ عاش للشهادة فنالها

+ -

خاض إسماعيل هنية في حياته العامرة كل المعارك الممكنة في سبيل نصرة القضية الفلسطينية، بالسلاح والسياسة والسجن والتضحية بالأولاد، وتعفف عن كل الإساءات والأكاذيب التي حاولت النيل من شرفه ونضاله، إلى أن لقي ربه كما أراد "شهيدا" بنيران العدو الصهيوني في أشرف معركة تحرر، يبكيه كل الفلسطينيين بكامل أطيافهم وتنكس له الأعلام في الضفة والقطاع كأبلغ تجسيد لمسيرته التي آثر فيها دائما التنازل لأجل "الوحدة الوطنية".

بملامحه التي تجمع بين براءة الطفل وصرامة المقاوم، ارتبطت صورة إسماعيل هنية على مدار أكثر من ثلاثين سنة، في ذهن الجزائريين والعرب، بالكفاح الفلسطيني من أجل التحرر. فقد كان هذا الرجل الفذ قادرا في كل محطات التضحية الكبرى على إيجاد الكلمات التي يرفع بها معنويات شعبه ويثبته على مسار المقاومة، وكان يتجاوز في ذلك كل آلامه وأحزانه الخاصة التي لا يفرق بينها وبين الهم الوطني العام، ويظهر دائما بثبات انفعالي لا يضاهى في أشد المواقف زلزلة.

ظهر ذلك بجلاء بعد طوفان الأقصى، عندما كان يصله الخبر تلو الآخر عن استشهاد أفراد عائلته. هكذا تلقى بصبر محير نبأ استشهاد 3 من أبنائه يوم 10 أفريل 2024 بعد أن كانوا على متن سيارة مع 5 من أبنائهم لأداء صلة الرحم بمناسبة عيد الفطر المبارك، بتنفيذ معلن من جهاز "الشاباك". وقبل ذلك استشهاد الحفيد الأكبر له بعد تنفيذ ضربة جوية إسرائيلية على منزله. وقبله استهداف حفيدته أثناء تواجدها في مدرسة تؤوي النازحين واعتقال إحدى شقيقات هنية قرب مدينة بئر السبع في النقب بتهم تشمل التواصل مع أعضاء حماس. وقد اكتشف العالم حينها أن عائلته الصغرى والكبرى، مثلما كانت دعاية بعض القنوات تروج، لا تعيش في فنادق الخمس نجوم بل تقيم بين ظهراني الشعب الفلسطيني وتتقاسم تماما معاناته.

تلك الصلابة التي تفل الحديد لم تأت من فراغ، فمشروع القائد "إسماعيل هنية" ولد من رحم المعاناة والحرمان وارتبط بكل تفاصيل القهر الفلسطيني منذ بدء النكبة سنة 1948 التي لم يشهد حدوثها لكنه عاش كل إرهاصاتها.

كتب لإسماعيل عبد السلام أحمد هنية الميلاد يوم 23 جانفي 1962 في قطاع غزة بمخيم الشاطئ للاجئين، الذي كانت أسرته قد لجأت إليه من قرية الجورة الواقعة في قضاء مدينة عسقلان المحتلة. وفي هذا المخيم، درس المرحلتين الابتدائية والإعدادية في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) وحصل على الثانوية العامة من معهد الأزهر، ثم التحق بالجامعة الإسلامية في غزة عام 1987 وتخرج فيها بدرجة البكالوريوس في الأدب العربي، وفق ما هو مدوّن في سيرته الذاتية.

تشرّب هنية قضية شعبه في اللجوء ووعى أهمية النضال الوطني المبكر من أجل مواصلة درب التحرير، ليبرز نجمه سريعا خلال مرحلة الدراسة الجامعية، التي كان فيها مناضلا من الدرجة الأولى، فقد كان عضوا نشطا في مجلس اتحاد الطلبة وذاق لأول مرة مرارة السجن على يد سلطات الاحتلال التي اعتقلته للمرة الأولى عام 1987 بُعيد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية ولبث في السجن 18 يوما، ثم اعتقل للمرة الثانية عام 1988 لمدة ستة أشهر، ثم لم يلبث أن عاد مرة ثالثة للسجن عام 1989 بتهمة الانتماء إلى حركة حماس، حيث أمضى ثلاث سنوات معتقلا.

في تلك السنوات، وبعد مرارة اللجوء ثم السجن، استعمل الاحتلال سلاح النفي ضد هنية الذي وجد نفسه في منطقة مرج الزهور في جنوب لبنان، لكن شوقه لغزة سرعان ما أعاده إليها بعد سنة فقط إثر توقيع اتفاق أوسلو، ليصبح رئيس الكتلة الإسلامية في الجامعة الإسلامية بغزة، وهي الجامعة التي شغل فيها عدة وظائف قبل أن يصبح عميدا لها عام 1992. هذا الرصيد الهائل، أهله ليكون المرافق الأول للشيخ أحمد ياسين بعد إفراج الاحتلال عنه سنة 1997، حيث ترأس مكتبه وكان أذنه التي يسمع بها ورجله التي يمشي بها ولسانه الذي يتحدث به، ما كلفه عدة محاولات اغتيال في تلك الفترة.

 مضت الأيام والأحداث والانتفاضات في فلسطين وحان موعد الانتخابات التشريعية سنة 2006، التي نافس فيها هنية باسم قائمة التغيير والإصلاح لحركة حماس أكبر الحركات الفلسطينية فتح، وكانت المفاجأة مدوية بحصده أغلبية مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني ليصبح رئيسا للحكومة الفلسطينية التي شكلتها حماس في فيفري 2006. تميزت تلك الفترة بصراع الإخوة بين حماس وفتح، الذي انتهى إلى سيطرة حماس على قطاع غزة، ثم قرار الرئيس محمود عباس إقالة هنية من منصبه، لكنه رفض وبقي رئيسا للحكومة التي تسيطر على قطاع غزة.

لكن السنين أثبتت بعد ذلك أن هنية لم يكن رجلا متشبثا بالسلطة واختار طواعية سنة 2014 الانخراط في مسار المصالحة الوطنية مع السلطة الفلسطينية، ثم تنازل عن رئاسة الحكومة المقالة وشارك في حكومة وفاق وطني. أما حزبيا، فقد تولى هنية سنة 2017 رئاسة المكتب السياسي لحركة حماس، بعد انتخابات داخلية نافسه فيها موسى أبو مرزوق ومحمد نزال. ورغم فشل محاولات المصالحة الفلسطينية عمليا في الأرض عدة مرات، إلا أن هنية ظل منفتحا على الحوار، ولبّى سنة 2022 دعوة الجزائر التي نجحت في كسر الحاجز بينه وبين الرئيس محمود عباس، وانتهى اللقاء بمصافحة شهيرة برعاية الرئيس عبد المجيد تبون وباتفاق مصالحة جديد، ظل هنية يؤكد تمسك حركة حماس به وينفي مسؤوليتها عن تعطيل بنوده. وفي قاموسه المقاوم، كانت الجزائر دائما بقوم في خطب هنية، فهو دائم الاستشهاد بثورتها ضد المستعمر الفرنسي وضد المثبطين الذين كانوا يهاجمون خيار المقاومة ويدعون للاستسلام لعدو لا يؤمن أصلا بالسلام. وتحتفظ الذاكرة الوطنية بالعديد من الزيارات التي قادت الرجل إلى الجزائر، خاصة في المناسبات الحزبية، حيث كان يدعى كثيرا لمؤتمرات الأحزاب الإسلامية والوطنية وكان يلبي النداء دائما. وفي السنوات الأخيرة، زار الجزائر والتقى كبار المسؤولين فيها وجلس في المدرج الرئيسي مع كبار القادة السياسيين والعسكريين في الجزائر، يشاهد العرض العسكري الضخم الذي أقامته الجزائر بمناسبة ذكرى استقلالها الستين.

 

كلمات دلالية: