لقد أبان نزوع باريس إلى إعلان ما كانت تخفيه في صدرها، مدى ارتهانها ووقوعها بين فكي كماشة اللوبيات التي تعمل كل ما بوسعها لإجهاض أي تقارب مع الجزائر، على أساس مبدأ الندية أي "الراس للراس"، ما هو إلا محصّلة منتظرة، وهو فعل لا يدعو للقلق البتّة.
بل إن لمثل هذه الأفعال فوائد كثيرة، أبرزها يقع على النخب الوطنية في الجزائر الانتباه لها وبأن الوقت قد حان للاقتناع بأن المنطق الاستعماري لا يزال معششا ومتمكنا من الشريك الفرنسي وليس بمقدوره حاليا ولا غدا التخلي عنه لاعتبارات "جينية" لا يستطيع العيش بدونها أو تعديلها مهما استعمل من مساحيق وجراحة تجميلية، تماما كما كان يفعل من قبل.
إن الغاية الوحيدة التي يؤمن بها حكام فرنسا، هو إخضاع الشعوب الأخرى ونخبهم المسلوبة إيديولوجيا وحضاريا لإرادتهم والعمل لصالح أجنداتهم، وليس من المستغرب أن تنزع نخب باريس إلى التخطيط للإضرار بمصالح الجزائر الإقليمية والدولية تمهيدا لأجندة استعمارية جديدة تمارس بها الانتقام مثلما فعلت من قبل، وذلك باعتماد نفس السياسات القديمة لاستمالة الحلفاء بوعود اقتسام الكعكة وبسط النفوذ تحت شعار "الجميع سيربح".
إن مثل هذه المواقف، لا يمكن إلا أن تزيد من تصميم النخب الوطنية في البلاد لأجل التوحّد والعمل المشترك لصون مصالح الجزائر ومواصلة بذل الجهود لتجسيد الأهداف الاستراتيجية في التحلّل من ربقة التبعية الاقتصادية التي يظل وجودها عامل للتأثير على القرار السياسي المستقل المراعي للمصالح الوطنية دون غيرها.
وبعدما فعلت باريس فعلتها المتجاهلة لحقوق الشعب الصحراوي الأعزل، الذي لا محالة منتصر، ماذا بالإمكان أن تفعله الجزائر، خاصة مع تكرار نقض العهود والإخلال بالوعود؟
في بيان وزارة الخارجية الذي أصدرته، أول أمس، نقرأ بأن الحكومة الجزائرية تفضّل التريّث وستقوم باستخلاص كافة النتائج والعواقب المنجرّة عن هذا القرار الفرنسي الصادر في ذروة الانشغال بحدث الأولمبياد، وأيضا مع ذروة الحرب الصهيونية على قطاع غزة المحاصر.
أولى ردود الفعل، حتما ستكون اقتصادية، إذ وبالرغم من اللقاءات التي جمعت بين الرئيس عبد المجيد تبون والرئيس الفرنسي بطلب من هذا الأخير خارج الإطار الثنائي للعلاقات بين البلدين، كما كان الحال في قمة المناخ بمدينة "شرم الشيخ" المصرية، وفي قمة مجموعة الدول الصناعية السبع بمدينة باري الإيطالية وما تضمّنته من رسائل تفاؤل حول عودة الدفء للعلاقات، ولا يمكن تفسير الغيض الباريسي هذا إلا أنه نتاج خيبة أمل من رؤية صفقات وشراكات مهمة تذهب إلى أطراف أخرى في الاتحاد الأوروبي، ولعل مشروع الهيدروجين الأخضر مع الإيطاليين والألمان والنمساويين واحدة من الملفات التي دفعت إلى إخراج المكنون في الصدور إلى العلن.
سياسيا، من الممكن جدا رؤية زيارة الرئيس تبون إلى باريس تتأجّل مرة أخرى وقد لا تتجسد أبدا، على اعتبار أن باريس لم تكشف سرا خطيرا باعترافها بدعم خيار الحكم الذاتي في الصحراء الغربية، مثلما فعلت إسبانيا من قبل، إذ كان هذا ديدنها منذ استقلال الجزائر في 1962، وما مواقفها في الأمم المتحدة وامتعاض قيادة جبهة البوليساريو والرئاسة الصحراوية من الدور الفرنسي إلا دليل على ذلك.
وقد تكون عبارات بيان الخارجية الأبرز، كفيلة بتصوير المشهد المرتقب بعد أيام، على اعتبار أن "القوى الاستعمارية، قديمها وحديثها، تعرف كيف تتماهى مع بعضها البعض" و"القضية الصحراوية جزء لا يتجزأ من مسار تصفية الاستعمار"، وهذا ما لا يمكن أن تلغيه المواقف الطارئة مهما فعل أصحابها وسنن التاريخ عامرة بالأمثلة والقصص، فقط نحتاج إلى من يعتبر.