38serv

+ -

 جاء في الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: “من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقا على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها”، قالوا: يا رسول الله أفلا ننبئ الناس بذلك؟ قال: “إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس”.
ويقول الحق سبحانه في معرض بيان صفات المؤمنين بآخر سورة الفرقان: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}، ثم ساق ربنا في كتابه أوصاف عباد الرحمن، التي منها: {واجعلنا للمتقين إماما}، لم يقولوا: ربنا اجعلنا من المتقين، وإنما أن يكونوا أئمة، يقول ابن كثير في تفسيره: يعني اجعلنا أئمة يقتدي بنا الناس، بصدقاتهم وفي عبادتهم وفي علمهم وفي دينهم، وفي إصلاحهم، وحجهم وعمرتهم، وفي سائر أحوالهم، فعالي الهمة يكون طموحه عاليا دائما.

إن عالي الهمة يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايته، وتحقيق بُغيته، لأنه يعلم أن المكارم منوطة بالمكاره، وأن المصالح والخيرات واللذات والكمالات كلها لا تنال إلا بحظ من المشقة، ففي قرن وبعض قرن، وثب المسلمون وثبة ملأوا بها الأرض قوة وبأسا، وحكمة وعلما، ركزوا ألويتهم في قلب آسيا، وهامات إفريقيا، وأطراف أوروبا، وتركوا دينهم وشريعتهم وأدبهم تدين لها القلوب، وتنطق بها الألسنة، وأكدوا أنهم خير أمة أخرجت للناس بعد أن كانوا طرائق قددا.

إنها الهمة العالية التي تجعل العبد يثبت قدميه على الأرض، وقلبه معلق بالله تعالى وجنة عرضها السموات والأرض، فالهمة العالية هي سُلَّمُ الترقي إلى الكمال في كل أبواب الخير، وفي شتى الميادين، في العلم والسياسة والثقافة والاقتصاد والاجتماع... فمتى تحلت الأمة بذلك لان لها كل صعب، واستطاعت أن تعود إلى الحياة، مهما ضمرت فيها معاني الإيمان.

أصحاب الهمة العالية فحسب هم الذين يقومون على البذل في سبيل المقصد الأعلى، وهم الذين يبدلون أفكار العالم، ويغيرون مجرى الحياة بتضحياتهم، وإن أصحاب الهمم العالية هم القلة التي تنقذ المواقف، وهم الصفوة التي تباشر مهمة الانتشال السريع من وحل الوهن.

القرآن الكريم تواترت نصوصه في ذم ساقطي الهمة، وصورهم في أبشع صورة، كما قص الله علينا من قول موسى لقومه: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير}، وذم الله تعالى المنافقين المتخلفين عن الجهاد لسقوط همتهم وقناعتهم بالدون: {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف}. وشنّ حربا شعواء على الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، ويجعلونها أكبر همهم، وغاية علمهم، وبيّن أن هذا الركون إلى الدنيا تَسَفُّل ونزول يترفع عنه المؤمن: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللّه اثاقلتم إلى الأرض}.

وفي المقابل أثنى على أصحاب الهمم العالية، وفي طليعتهم الأنبياء والمرسلون، وفي مقدمتهم أولو العزم من الرسل: {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل}. كما ذكر الله تعالى أولياءه الذين كبرت همّتُهم ووصفهم بأنهم رجال: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}. ولقد أمر الله تعالى المؤمنين بالهمة العالية والتنافس في الخيرات فقال عز وجل: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض}. وقال: {فاستبقوا الخيرات}. وكان الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من العجز والكسل، ويقول لأصحابه: “إن الله تعالى يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها”.

وبيّن صلّى الله عليه وسلم أن أكمل حالات المؤمن ألا يكون له همّ الاستعداد للآخرة، فقال: “من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له”. وعامة نصوص الترغيب والترهيب إنما ترمي إلى توليد قوة دافعة تحرك قلب المؤمن، وتوجِّهُه إلى إقامة الطاعات، وتجنّب المعاصي والمخالفات، وإلى بعث الهمة وتحريكها، واستحثاثها للتنافس في الخيرات: “إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس”.

يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: “إن لي نفسا تواقة، تاقت إلى الإمارة فنالتها، ثم تاقت إلى الخلافة فنلتها، ثم تاقت بعد ذلك إلى الجنة، وأرجو بإذن الله تعالى أن أنالها”، فالإنسان إذا كان عالي الطموح تجد أنه يعمل لمثل ذلك. يوم بدر حين خرج ثلاثة من الأنصار للمنازلة قالت قريش: والله لا نطعن في أحسابهم ولا أنسابهم، ولكن أخرج لنا أكفاءنا من قريش، فأخرج لهم صلّى الله عليه وسلم عليا وحمزة وأبا سفيان بن الحارث فبارزوهم، وكذلك الناس دوما، ومن هنا علينا مواجهة الحقائق، وأن نتبصر حيث تقع أقدامنا، ولا ننتظر خراب العالم على أمل أن ينهض المسلمون على أنقاضه، فإن السنن الربانية لا تحابي الكسالى وهابطي النفوس والهمم. والله ولي التوفيق.

*إمام مسجد عمر بن الخطّاب، بن غازي - براقي