38serv

+ -

يرى أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جنيف، حسني عبيدي، أن حرص الجزائر على العودة لاتفاق السلم والمصالحة في مالي، فهم من باماكو، كمحاولة لعرقلة سلطة العسكر الذي يسعى لتكريس الحل العسكري كمقاربة وحيدة للحكم. مؤكدا في حوار مع "الخبر"، أن الرفض الإفريقي لاستمرار الدول الغربية في ممارسة وصايتها، دفع بالدول الكبرى للبحث عن دول أو كيانات جديدة تقبل بتطبيق نفس السياسات بالوكالة.

 

بداية كيف تفسّر الأزمة الدبلوماسية بين الجزائر وحكومة باماكو بعد تبادل استدعاء السفراء، ولماذا صنفت باماكو استقبال الشيخ محمود ديكو كفعل عدائي، رغم أن الجزائر استقبلت سابقا مسؤولين من الأزواد دون أي اعتراض من باماكو؟

تشكّل منطقة الساحل الإفريقي، العمق الأمني والاستراتيجي للجرائر، خاصة منذ استمرار حالة عدم الاستقرار في ليبيا وخروج القوات الفرنسية والأممية من النيجر ومالي، مخلّفة فراغا أمنيا كبيرا ضاعف من الأعباء الملقاة على الجزائر في مرحلة دقيقة من تاريخها وفي ظرفية دولية حساسة، ويمكن سرد ثلاثة عوامل ساهمت في تعقيد المشهد في دول الساحل، مهّدت لسوء تفاهم بين مالي والجزائر، تحوّل إلى أزمة يستدعي تحييدها في أقرب الآجال:

أولا: تكرر مسلسل الانقلابات العسكرية في بعض دول الساحل، منها مالي وغياب آفاق العملية السياسية التي من شأنها توفير حاضنة شعبية وإشراك جميع المكوّنات السياسية في مشروع سياسي داخلي.

ثانيا: خروج فرنسا أجّج تنافسا كبيرا لدى العديد من الدول العربية والإفريقية من أجل بناء مناطق نفوذ لها أو بالوكالة.

ثالثا: الاهتمام الروسي والصيني المتزايد بتقوية تواجدهما، خلق ديناميكية خطرة على أمن واستقرار المنطقة، وجعل الولايات المتحدة الأمريكية تراجع سياستها في القارة الإفريقية، مما من شأنه خلق بيئة غير مستقرة.

جميع هذه العوامل تخلق حالة من التنافس تساهم في تهميش الدور الجزائري وربما إقصائه من منطقة الساحل، خلال استنزافه عسكريا واقتصاديا.

في ظل هذا المناخ المشحون، جاء رد باماكو على استقبال الشيخ ديكو ليعكس مستوى القلق لدى القادة العسكريين في مالي، بعد تبدّد آمال المسار الانتقالي المنتظر وتكريس المقاربة العسكرية في الحكم، خاصة وأن محمود ديكو لم يهنّئ العسكر باستعادة المدينة الاستراتيجية كيدال كباقي الأحزاب السياسية.

كما أن موقف الحاكم العسكري في مالي، مصدره عدم تسرّعه في تسليم الحكم للمدنيين وكذا معرفته بطبيعة الدور الذي يمكن أن يضطلع به الشيخ ديكو. من هنا يمكن تفسير هذه الأزمة ومحاولة تخوين الشيخ ديكو، كرسائل موجّهة لجميع الأطراف الداخلية الراغبة في العودة إلى مسار الانتقال السلمي، كما أن العقيد غويتا يستعمل ورقة زعزعة الاستقرار في مالي للحصول على دعم شعبي إضافي وتثبيت سلطاته.

 

هل يؤشر هذا الموقف لوجود رغبة من باماكو في التنصّل من اتفاق 2015 والرغبة في الذهاب نحو الحسم العسكري ميدانيا؟

 الأزمة الناشئة بين الجزائر ومالي مؤشر على صعوبة بلورة الجزائر لسياساتها الإفريقية، خاصة في منطقة الساحل ومحدودية الأداء الخارجي في توضيح هذه السياسة وفي مواكبة التغيّرات الكبيرة في البنية السياسية والفكرية لقيادات جديدة في دول الساحل تشكّل قطيعة مع الجيل القديم، الزعماء الجدد لهم خلفيات متعددة ومرجعيات مختلفة تملي على صانع القرار السياسي في الجزائر إعادة صياغة الأجندة الخارجية ومراجعة أدوات التنفيذ.

اتفاقية 2015 هي اتفاقية إطار مرجعية يجب أن تتسم بالمرونة لتتناسب مع ظرفية تختلف عن العشرية الفائتة وحتى لا يعتبرها القادة الجدد موقفا معاديا أو تدخّلا في سياساتهم الداخلية كعائق لأجنداتهم السياسية. بمعنى آخر العسكر يعتبر في مالي أنه هو الأصل والاتفاقيات بما فيها اتفاقية2015 هي الفرع، ومن هنا لا يمكن التقيّد بها إذا تعارضت مع أهداف الجيش الحرص الجزائري على العودة لهذه الاتفاقية، فُهم من قبل باماكو كمحاولة لعرقلة سلطة العسكر، من خلال التشاور مع أطراف هي أصلا غير مطمئنة لطريقة الحكم السائدة.

 

في ظل التطورات الميدانية والدبلوماسية، ما هو مصير اتفاق السلم والمصالحة؟

المصالحة مسار طويل وشاق يتحقق بتحقيق السلم وتحييد السلاح، لذا تعتبر اتفاقية 2015 إنجازا مهمّا في إبعاد شبح الحرب وبناء أسس المصالحة الداخلية، لكن الإنقلاب العسكري ساهم في تهميش الاتفاقية وعطّل قطار المصالحة.

من خلال الإصرار على الحسم العسكري في كيدال، تسعى باماكو لتكريس الحل العسكري، كمقاربتها الوحيدة في الحكم، دون العودة إلى الأطراف الموقّعة على اتفاقية باماكو. لكن من الصعب ومن المخاطرة على باماكو الخروج نهائيا من اتفاقية 2015 لأنهم يفتقدون للقدرة العسكرية الكافية والقدرة الاقتصادية للمحافظة على المكاسب التي تم تحقيقها عسكريا.

الجزائر كوسيط أساسي وراع للاتفاقية، من حقها التذكير بأهمية الاتفاقية في استقرار مالي والتركيز على الوحدة الترابية، وبحكم أن عدم الاستقرار في مالي، له انعكاسات مباشرة على الأمن الجزائري والإفريقي والأوروبي.

 

من المستفيد من تأزم العلاقات بين الجزائر وباماكو، وهل هناك يد لأي قوى إقليمية أو دولية في هذه الأزمة؟

بالنظر إلى العلاقة القوية بين الجزائر ومحيطها الإفريقي، كثيرة هي الدول التي لا تريد للجزائر العمل على بناء بيئة آمنة ومستقرة على حدودها، وتسعى لخلق أزمات تنهك الدولة على جميع الأصعدة، إضافة إلى أن خلق صراعات جديدة وتقليص دور الجزائر في إدارة الوساطات من أجل الإبقاء على السلم الاجتماعي، يراود العديد من الدول، منها تلك التي كانت تأمل في استعمال منظمة "الإيكواس" للتدخل عسكريا في النيجر، وهو السيناريو الذي أفشلته الجزائر بالتعاون مع مالي وبوركينافاسو ودول أخرى. لكن لأن طبيعة العلاقات الدولية تكمن في تحقيق المصلحة العليا لأمن المواطن، وجب الابتعاد في صنع السياسة الخارجية عن سياسة العواطف والأهداف الآنية والتفكير في المصلحة العليا لأمن المواطن والدولة.

الرفض الإفريقي لاستمرار الدول الغربية في ممارسة وصايتها السياسية والاقتصادية، دفع بالدول الكبرى للبحث عن دول أو كيانات جديدة تقبل بتطبيق نفس السياسات بالوكالة وبأقل ثمن، مع هامش جديد للربح للوكلاء الجدد. الوضع بين الجزائر ومالي نموذج لملامح نظام دولي جديد يشجّع على تنافس فوضوي وهدام لتقاسم النفوذ الذي تخلت عن ممارسته الدول الكبرى بطريقة مباشرة.

 

ما هي السيناريوهات المتوقّعة للأزمة الجارية؟ و‏كيف يمكن للجزائر احتواءها والحفاظ على دورها كوسيط موثوق بين أطراف النزاع في مالي؟

عودة الحوار والتنسيق بين الدولتين، أولوية قصوى للجزائر وإشراك باماكو والتنسيق معها في الجهد الجزائري للإبقاء على مركزية اتفاقية 2015، هي أولوية الأولويات. كما أن التشاور مع باماكو على مستوى عال، أصبح ضرورة قصوى. السلطات المالية تعلم جيدا أن الجزائر لعبت دورا محوريا في إفشال سيناريو التدخّل العسكري في النيجر من قبل "الإيكواس" وداعميه والذي كان من أهدافه أيضا مالي ودول إفريقية أخرى.

وبالتالي، فإن مصلحة الجزائر تكمن في الحفاظ على الاستقرار الذي لا يمكن أن ينجح دون مشاركة جميع الأطراف في مالي، خاصة الشمال المهمّش، الأمر الذي يشكّل عقيدة اتفاقية 2015.

 

هل هناك أي دلالة لتزامن الأزمة مع مشاركة وزير خارجية مالي في اجتماع المغرب الذي يستهدف انفتاح دول الساحل على الأطلسي؟

المغرب يعمل على ترجمة سياسية لعوامل مهمة وراسخة في سياسته الخارجية:

1- الاستثمارات المهمة في العديد من الدول الإفريقية، من خلال التواجد المصرفي والتعامل الاقتصادي للعديد من البنوك المغربية.

2 الدبلوماسية الدينية التي بدأها المغرب منذ سنوات وأدت إلى خلق نسيج اجتماعي وديني وسياسي مؤثر.

3 السياسة الناعمة، من خلال ندوات منتظمة لفاعلين أفارقة، حضور مميز لإذاعة وتلفزيون "ميدي 1" وكذلك في مجال البعثات الجامعية..

4 إمكانية تعويل بعض الدول الغربية بما فيها الولايات المتحدة وفرنسا على المغرب للدخول على الخط ومنع تفرّد النفوذ الصيني والروسي بالمنطقة.

كلها أسباب تعطي للمغرب الفرصة لخلق مساحة خاصة به للحصول على امتيازات اقتصادية وسياسية واستعمال الساحل كورقة سياسية، من خلال اقتراح فتح منفذ أطلسي لدول الساحل، لأنه للأسف ما زال انطباع سائد لدى الدول الغربية ودول الخليج، أن الجزائر تدور في الفلك الروسي، وبالتالي لا بد من كسر هذا الثنائي. مع العلم أن للجزائر أولوياتها واستقلالية في سياستها الخارجية كثيرا ما تتعارض مع موسكو.

رغم ذلك يبدو تجاوز الجزائر في أي مشروع اقتصادي أو سياسي أمر صعب، لارتباط أمنها الوثيق بدول حدودها الجنوبية وبتاريخ مشترك من محنة الاستعمار إلى معركة مكافحة الإرهاب، لكن ريع التاريخ والجغرافيا لا يصنع سياسة خارجية في مستوى التحديات الراهنة.

 

كلمات دلالية: