38serv
إن المقاصد الشرعية التي دعانا الخطاب الإسلامي المعاصر إلى اعتمادها في منهجه، وجعلها غايته ومطلبه، لا يمكنه التوصل إليها إلا بوسائل متنوعة ومختلفة، إلا أن هذه الوسائل ليست على وزان واحد في تحصيل المقاصد من جهة أوصافها، فهناك الأعلى الذي يوصل إلى أعلى المقاصد، وهناك الأدنى الذي يوصل إلى أدناها، والمتوسط منها متوسط فيها، كما أن تلك الوسائل تعتريها الأحكام الخمسة من جهة الشرع، فمنها الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام، إلا أن هذه الأحكام الخمسة التي تتقلب الوسائل في منازلها ليس من جهة استقلال تلك الوسائل بالحكم في ذاتها، وإنما من جهة تبعيتها لأحكام المقاصد الموصلة إليها. وبناء عليه، فقد قرّر علماؤنا في باب الوسائل والمقاصد قاعدة عظيمة تنظم العلاقة بينهما، وتحدّد موقع الآثار المترتبة عن تلك العلاقة من أحكام الشريعة، فقالوا: (الوسائل تتبع المقاصد في أحكامها).
أما الوسائل، فقد قال ابن عاشور في بيان ماهيتها: هي الأحكام التي شرعت ليتم بها تحصيل أحكام أخرى، فهي غير مقصودة لذاتها، بل لتحصيل غيرها على الوجه المطلوب الأكمل. إذن، فالوسائل هي مجموع الطرق أو المسالك أو الأحكام المفضية إلى المقاصد المنتظرة منها، ويدخل في الوسائل بهذا المعنى الأسباب المعرفات للأحكام، والشروط وانتفاء الموانع، ويدخل فيها أيضا ما يفيد معنى كصيغ العقود وألفاظ الواقفين، في كونها وسائل إلى معرفة مقاصدهم فيما عقدوه أو شرطوه.
ويتفرع على الأصل الذي سبق ذكره سبع قواعد، يجب على المتعاطي للخطاب الإسلامي أن يضعها نصب عينيه، وعلامات مضيئة تنير له طريقه ومسيرته، وهذه القواعد هي:
الوسيلة إلى الواجب واجبة، ومنها جاء قولهم: “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”. ويتبع هذا القول: إن “الوسيلة إلى المندوب مندوبة أيضا”. ويدخل في هذا الباب جميع فروض الكفاية؛ من آذان وإقامة وإمامة صغرى وكبرى وولاية القضاء وجميع الولايات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك التجارة والزراعة وجميع الحرف والصنائع اللازمة لحاجة الناس إليها.
الوسيلة إلى الحرام حرام، ومنها جاء قولهم: “ما أفضى إلى الحرام فهو حرام”، ويدخل في هذه القاعدة: أن “ما أدى إلى المكروه فهو مكروه أيضا”. ومما يدخل تحت هذه القاعدة؛ بيع العنب لمن يعصرها خمرا، وبيع السلاح وقت الفتنة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: “... فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه”. ومما يندرج في هذا الباب نهيه تعالى المؤمنين عن سب آلهة الكفار، لأنه يفضي إلى سب الكفار لله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، فقال سبحانه: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسب الله عدوا بغير علم}، ومنها النهي عن كل ما يؤدي إلى العداوة والبغضاء، كسوم المسلم على سوم أخيه، وخطبته على خطبته.
كل مباح توصل به إلى ترك واجب أو فعل محرم فهو حرام، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي إلى الصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع}، ولهذا النص، فإنه يحرم البيع والشراء بعد نداء الجمعة الثاني، ومن هذا القبيل عدم جواز بيع الأشياء المباحة لمن يعمل بها معصية. إذا سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة، ويدخل في هذا الباب حكم استعمال بعض صيغ العقود في غير ما وضعت له إذا قرن بها ما يصرفها إلى مقصوده، مثل استعمال لفظ وهبت في عقد الإنكاح إذا قرن بلفظ صداق، وكذلك لفظ ملكتكها.
قد تكون وسيلة الحرام غير محرّمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة، ومما يدخل تحت هذه القاعدة إباحة النظر إلى المخطوبة والسفر بها إذا خيف ضياعها كالسفر بها من دار الحرب، مثل سفر أم كلثوم، ومنها نظر الطبيب إلى العورة عند المعالجة، ومنها دفع المال للمحارب حتى لا يتقاتلان، واشترط مالك فيه اليسارة.
إن الوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل، والمتوسطة متوسطة، والمقاربة قد يختلف في إلحاقها بالمفضي. قال ابن عاشور: وقد تتعدّد الوسائل إلى المقصد الواحد، فتعتبر الشريعة في التكليف بتحصيلها أقوى تلك الوسائل تحصيلا بالمقصد المتوسل إليه، بحيث يحصل كاملا، راسخا، عاجلا، ميسورا، فتقدمها على وسيلة هي دونها في هذا التحصيل، وهذا مجال متسع صدق فيه نظر الشريعة إلى المصالح وعصمتها من الخطأ والتفريط، وإذا قدّرنا وسائل متساوية في الإفضاء إلى المقصد باعتبار أحواله كلها، سوّت الشريعة في اعتبارها وتخيير المكلف في تحصيل بعضها دون الآخر، إذ الوسائل ليست مقصودة لذاتها.
*رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر