+ -

قال الحق سبحانه: {وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين، فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا}.

ذكر الباري عز وجل في كتابه قصص كثير من أنبيائه وعلاقاتهم مع أممهم، وبين من آمن منهم، وكيف كانت نهايات أولئك الكفرة المعاندين، ما بين غريق ومخسوف به ومرجوم إلى ما هناك. إلا أن نبيا منهم لم يذكر الله نهاية قومه، ولم يذكر من آمن به، والغريب أن هذا النبي من أولي العزم، ومن أفضل الأنبياء، إنه إبراهيم عليه السلام. فإذا تأملنا في أمره، وجدنا أنه لا يُعرف له بلد معيّن استقر به كانت رسالته فيها، كما لم يتبعه جمع من قومه كما حصل لغيره من الأنبياء. فالدرس الأول الذي نستنبطه من سيرة هذا النبي العظيم أن الواحد فينا ليس مطلوبا منه أن يكون له أتباع، وإنما عليه أن يوضح طريق الحق، ولا شأن له بعد ذلك بمن صدق أو لم يصدق.

ومن الجوانب المضيئة في شخص إبراهيم موضوع الكرم، وقد حكى القرآن عنه هذه الخاصية: {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون، فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين، فقربه إليهم قال ألا تأكلون}، فالأصل في صفات المؤمن الكرم، ففي الصحيح عن أنس رضي الله عنه: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بَيْرُحاءَ، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب، قال أنس: فلما نزل: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} قام أبو طلحة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو بِرّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال: فقال رسول الله: “بَخٍ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين”، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها في أقاربه.

ومن الجوانب التي اهتم القرآن بذكرها في حياة إبراهيم الاهتمام بشأن المؤمنين: {ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين، قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها}، وفي الأثر: “من لم يهتم لأمر المسلمين فليس منهم”. فحري بالمؤمن أن يفرح لفرح أخيه ويظهر ذلك له، لما تاب الله على كعب بن مالك في قضية الثلاثة الذين خُلِّفوا عن تبوك، أقبل كعب فرحا بتوبة الله عليه، فنهض إليه طلحة بن عبيد الله فعانقه وبارك له، يقول كعب: فما قام لي من المهاجرين غير طلحة، فوالله لا أنساها له.

ومن الجوانب التي اهتم القرآن بذكرها في حياة إبراهيم عليه السلام مراعاة شأن الأسرة، فمن المعلوم أن إبراهيم لم ينجب حتى جاوز الثمانين، وكان إذا سأل الله الذرية قال: {رب هب لي من الصالحين}، فلم يسأل ولدا وكفى، بل سأل الله أن يكون صالحا، فصلاح الأبناء أهم صفة يتمناها الأب في أبنائه. ومن الجوانب التي اهتم القرآن بذكرها في حياة إبراهيم عليه السلام أيضا الأثر الباقي: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}، فبناء الكعبة شرف عظيم خص الله به إبراهيم وابنه إسماعيل، وهو أثر باقٍ إلى يوم الدين.

فإبراهيم كان نافعا أينما حلّ وحيثما ارتحل، فدعوته الأولى كانت في العراق، ثم انتقل إلى مصر فوضع حجر الأساس لبيت المقدس، ثم دخل مصر فحاجج النمرود، ثم دخل الحجاز فبنى الكعبة، ثم عاد إلى فلسطين وبها مات. وهو في كل هذه الرحلات يترك أثرًا، ولسان حاله: {وجعلني مباركا أين ما كنت}. فالمؤمن كالغيث أينما وقع نفع، وهكذا يكون المؤمن، يترك في كل مكان يكون فيه أثرا صالحا بعده: {إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين}.

* إمام وأستاذ بجامعة العلوم الإسلامية – الجزائر