+ -

بين الجزائر وباريس أرخبيل دم، هذا مفهوم تاريخيا، وقد شكلت الجزائر عبئا كبيرا على الضمير الفرنسي منذ اكتشف الفرنسيون إن ”أرض اللبن والعسل” فيها في النهاية شعب يستطيع أن يتألم، ويثور، ويهزم قيوده وسجانيه.. وكان من حظ باريس أن حكمها رجل من نوع ديغول يرى على بعد ثلاثين سنة من التوقيت المحلي، فقام بما يقوم به قائد استراتيجي: تربية الخدم الصغار على النشيد الوطني الفرنسي.. والحقيقة أن فرنسا كلها تدين له ببعد النظر هذا، فقد حول الجزائر بعد ثلاثين سنة إلى معلف لخيله وبغاله..لم يترك لذلك الشعب الثائر سوى الحق في الشعور بالألم، وهو يرى أن نُخبه فرنسية المزاج حتى بالنسبة للذين يرطنون بالعربية، وحكامه يثقون في عدوّ الأمس أكثر من رفاق الكفاح، وأصحاب المال يأتمنون بنوكه أكثر مما يأتمنون البنوك التي صنعوها هم بأنفسهم.. هل هناك تناقض في التاريخ.. لا.. منذ خروج الفرنسيين من الجزائر قرر ديغول أن يهزم الجزائر شرّ هزيمة، وقد فعل.. جعل الفرنسيين يخرجون ولكنه ترك فرنسا في الجزائر، وسلاحه هذه المرة: عندما يكبر الخدم الصغار سيخدمون سيدهم وسيتمرنون على تقليده.. وهم يفعلون ذلك بعناد وتشنج وإصرار على الطاعة حد الركوع.. لعله استفاد من الدرس الخلدوني ”المستعمر مولع بتقليد مستعمره”.إذن، انتصر ديغول، ليس بعد. ما يؤلم فرنسا أن لها ضميرا يوبخها على سوء التقدير. وهي تعرف أن وعي الشعوب يتطور غالبا في الكوارث، أكثر مما يتطور في زمن الكسل.. وقد كشف هذا الضمير أن العلاقة الحميمة التي تربط باريس - الجزائر أصبحت كارثة على الطرفين. فليقل من يشاء إنه ابتزاز لبعض الأطراف، وليقل آخرون إنه تكالب فرنسي مدروس لإهانة الجزائريين، بل يذهب البعض إلى أن الكتاب مدفوع الأجر مسبقا من الجزائر.. ليس مهما.لقد تساءل أحدهم كيف لهذه ”الفرنسا” التي تدعي أن لها قوانين صارمة فيما يتعلق بتبييض الأموال، وتضرب بيد من حديد على خزائن البنوك، لتعرف مصدر الأموال التي تسيرها، تسمح من جهة أخرى لمسؤولين جزائريين بمستوى وزراء وجنرالات والمدعين أنهم رجال أعمال، بتبييض ما يقارب مائة مليار أورو خلال السنوات العشر الماضية، معتقدة أنها تسد بهم الثغرات الموجودة في ميزانيتها غير المتوازنة أصلا..بالمقابل، تساءل صحفي جزائري على اطلاع بالملف: كيف لهؤلاء المسؤولين الجزائريين بين قوسين أن يهربوا هذه المبالغ الطائلة، بينما القانون الجزائري صارم في تعامله مع مهربي الأموال، وقد أسقطوا إمبراطورية الخليفة بهذه الدعوى بالذات..صحيح أن فرنسا تبتز الجزائر من جهة أخرى بأنها تدفع لجزائريين عاطلين عن التفكير وعن العمل، ما يفوق أربعة عشر مليار أورو سنويا حسب ادعائهم، لكن هذه الأموال تصرف في فرنسا، ولا علاقة لها بالفساد الذي ينخر جسم هذا البلد.وإذن العلاقة تزداد تعقيدا، والدور الجزائري يزداد وساخة، ولكن لفرنسا، مهما يكن، ضمير يوبخها، وهو ما يفتقد له النظام الجزائري تماما. والحقيقة أن هذا الضمير المعوق لم تظهر من أوساخه سوى الجهة العالقة بفرنسا، لأسباب تاريخية فيها بعض تصفية الحسابات، وبعض اللؤم والكذب المتبادل.. ولكن ماذا لو فتحنا الملف الإيطالي والإسباني والأمريكي، وملف تبييض الأموال في بنوك الإمارات والخليج، والعلاقة المشينة بين بعض المسؤولين الجزائريين وبنوك سويسرا وموناكو.. إلى آخر ذلك من ”الفضائح الحميمة” التي تنخر هذا البلد. سنجد دون شك أين صرفت ثمانمائة مليار دولار، خلال السنوات الخمسة عشرة الماضية، طبعا بعد عملية طرح الطريق السيّار، وتسعة كيلومتر ميترو وثلاث عربات ترامواي، وسنجد كما يقول التعبير الفرنسي Le compte est bon.الخلاصة هي أنني حين أفكر بتهريب هذا الكم الهائل من الأموال من طرف المسؤولين الجزائريين، أفكر في شيء واحد هو أنهم يعرفون أن الجزائر مقبلة على أيام صعبة وعسيرة، وعليهم أن لا يكونوا هناك هم وأبناؤهم، ولذلك هم يصنعون مستقبلهم حسب مخطط ديغول بالذات، أي المطالبة بعودة الاستعمار من طرف الذين لم يبق فيهم في النهاية سوى ميراث الألم.

 

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات